السبت، 27 أبريل 2013

اللص

"من هو؟؟ في أي مكان من العالم تعلق بك؟؟ كيف يقضي أوقات فراغه؟؟ إنه لص .. لقد سرق جزءا من حياتي ..  لقد سرقني كل شيء !!!" هذا مقطع من أغنية لمطرب إسباني اسمه خوسي لويس بيراليس، نال بها الجائزة الأولى في حفل للأغنية اللاتينية في الثمانينات.
تذكرتها وأنا أحاول أن أدون بعض لحظات العمر التي مرت بحلوها ومرها خاصة منذ نهاية 1972 حتى الآن، ووجدتني أقارن ذلك المجهول التي تتحدث الأغنية عن مصيبته في محبوبته ويتساءل مخاطبا شبح أو خيال المحبوبة التي انتزعت منه غصبا، أقارنه  مع أي صحراوي.. ولم أتكلف كثيرا من البحث ، لأنني عرفت من هو، وأدركت مكان تعلقه بها، واكشتفت كيف يقضي اوقاته الحرة.
طبعا إنه اللص وليس أي لص، هذا لص مدجج بالسلاح، وقد تعلق بمحبوبة غيره منذ نعومة أظافره في قصره المحتاج إلى ما يسكت به جياعا استنزفهم تسلطه وبطشه، أما كيف يقضي اوقات فراغه، فهو يوظفها كلها في المكر والتدبير لممارسة مهنته التي لا يتقن سواها، ألا وهي السرقة على الجيران، لكنه لا يسرق ليحصل على قوت يومه فقط، بل هو  هلوع جزوع، مسكون بالنظر إلى ما لدى الغير، ويحسدهم حتى على احلامهم وتطلعاتهم ..  يكره ضحك الأطفال وزقزة الطيور، وتغريد العصافير، يمرض في الربيع، ويتعافي مع أول زوابع الخريف .. وكان من سوء طالعنا أنه حين استعاد عافيته في مطلع خريف 1975، وجدنا نحلم، كنا نودع صيف بلادنا الحار، كهولنا الخبراء فطريا في علم الفلك يعدون طوالع النجوم فتجنح احلامنا إلى فضاءات من الغبطة والحبور.. في أجواء تملأها الزغاريد.. والتهيؤ لرحلة شتاء بدأت تباشيره بهطول قطرات مطر أيقظت أوئل نبتات الديدحان واشكاعة والغريمة والطير، صغارنا يحلمون بقرون "أشكان" وبالحفر عن حبات "التيلوم" وباللعب لعبة النصر بمدافع تازية.. رجالنا انخرطوا في هدنة تعيد المبعدين وتلم شمل المتفرقين من ابناء جلدتنا ويهيؤون لهم الاستقبال والمأوى والمأكل.. كنا نعيش في يقظتنا حلما طال انتظاره لما يقارب القرن من الزمن.
في تلك اللحظة الجميلة ولتعاستنا يبدو أننا ارتكبنا خطأ فادحا، لأن أنغام أحلامنا أزعجتت جارنا اللص، فاستيقظ متثائبا يسأل من حوله من خدام مدجنين، ما هذه الأصوات الناعقة التي تحملها رياح الجنوب إلى مسامعي؟؟ وجم الكل.. لا يجرؤون على إخباره.. فزمجر وتوعدهم إن لم يخبروه، وحين استجمعوا ما لديهم من شجاعة ممزقة وبسطوا له الأمر، ابتسم مكشرا عن أنياب مصاص الدماء، وأغدق على مخبريه.
أسبوع، أسبوعان، أو أقل دامت فرحتنا، قبل أن يطبق علينا، وقبل أن ندرك أن سماءنا لم تكن تمطر حقا، بل كانت تبكي مما هو قادم، ولم نلاحظ ان طيورنا هاجرت، إلا حين تحولت الزغاريد إلى عويل، والصحكات إلى أنين .. والحلم إلى كابوس.. والحقول إلى مدافن جماعية..
طالت رحلة شتائنا بل أصبحت تفقا طويلا مظلما، وأبدلت قرون "أشكان وحبات التيلوم" بالقنابل العنقودية، حتى الفراشات التي كانت تطير محلقة في البراري اختفت، وحلت محلها طائرات F5 الحربية..
نعم ادركنا جميعا ودن استثناء، من يكون، وفيماذا يقضي أوقات فراغه.. عرفنا من يكون اللص، وقد كنا نعرفه، لكننا لطيبتنا ولبداوتنا، ولحسن ظننا بالأخوة في الدين، لتعظيمنا لحق الجار، ولتحلينا بقوله تعالى "إن بعض الظن إثم".. لم نكن قادرين بل ولا نجرؤ على ظن السوء بجار عربي مسلم.. حتى اجتزنا المسافة القصيرة الفاصلة بين الشك واليقين، وشاهدنا كيف تقتل المواشي في مراعيها، وكيف تسمم الآبار في الفلوات، وكيف تتلف الخيام وآثاثاها.. وعشنا فواجع ام ادريكة والقتلة واتفاريتي .. تأكدنا من يكون اللص.. لكننا لم نحقد ولم نثأر.. بل كنا ممن يوصفون "بالكاظمين الغيظ والعافين عن الناس" وجنحنا إلى السلم.. لكن جاءنا الخبر اليقين بعد أربع وثلاثين سنة في اكديم إزيك، جاء مكتوب بالخط العريض، جاءنا بالصوت والصورة، جاءنا مصبوغ بحبر احمر قاني تحمله صيحات استغاثة ترددت في أرجاء المعمورة.. ليختنق صوتها باسم العدل في قاعة محكمة عسكرية. 

بقلم : مصطفى الكتاب
20 إبريل 2013

0 التعليقات:

إرسال تعليق

الاكثر تصفح خلال الاسبوع

 
Design by التغيير - | صوت التعبير الحر