الخميس، 30 مايو 2013

أيام في تندوف

الأماكن كالناس، منها ما يأنس المرء فيه وإليه ولو كان قفرا، ومنها ما يستوحشه ولو كان "جنّة". ولا شك في أن من أهم ما يُحبّب إليك المكان أو يُكرّهك فيه ويُنفرك منه هو الإنسان، فإن كان الذي يشاركك فيه خفيف الروح، لطيف المعشر، حسن القول والفعل أنست إليه وارتحت؛ وإن كان ثقيل الظل، سيء السلوك حسبت اليوم دهرا.. وقديما قال شاعر لم يجد أنسا في تونس:
لعمرك ما ألفيت تونس كاسمها** ولكنني ألفيتها وهي توحش
وقد أساء التصرف أعضاء مجلس بلدي فأقسم شاعر أن لا يدخل الجنة إن كان فيها أعضاء ذلك المجلس، فقال:
أقسمت لا أدخل الجنات عن ثقة** في الحشر إن قيل فيها المجلس البلدي
كما أن شاعرا آخر تمنى مجاورة الكلاب بدلا من رؤية أناس لما فيهم من سوء، فقال:
ليت الكلاب لنا كانت مجاورة ** وليتنا لا نرى مما نرى أحدا.. 
من الأماكن التي استأنست إليها وارتحت فيها رغم بعد الشقة ووعثاء السفر مدينة تندوف، وهي أقصى مدينة في غرب الجزائر. لم يقدر الله -عز وجل- أن أزور هذه المدينة إلا في نهاية الأسبوع الماضي، رغم تطلعي إلى هذه الزيارة، وترقبي لها.
كنت سابع ستة في هذه الزيارة، والستة هم الدكاترة عبد الرزاق ڤسوم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعبد المجيد بيرم أمينها العام، وعبد الحليم قابة مكلف بالفتوى في مكتبها الوطني، والأساتذة الزبير طوالبي مسئول التنظيم، والتهامي مجوري مسئول المالية، وعبد اللطيف سيفاوي من هيأة الإعلام.. وأما مناسبة الزيارة فهي تنصيب الشعبة الجديدة لجمعة العلماء المسلمين الجزائريين، والتعرف عن كثب على إخوة لنا في الدين والوطن.
لقد لقينا من إخوتنا في تندوف منذ وصلنا إليها إلى أن غادرناها ما لا قدرة لقلم أو لسان أن يضمه من حفاوة وترحيب وإكرام من كل من التقينا بهم من مسئولين ومواطنين، ما جعلني أتذكر وأردد قول الأمير عبد القادر المجاهد الشاعر :
ما في البداوة من غيب تُذم به ** إلا المروءة والإحسان بالبدر
وليعذرني الإخوة إذ لم أذكر أسماءهم لكثرتهم، فقد أكرمونا غاية الإكرام، وفتحوا لنا منازلهم وقبلها قلوبهم، وجمعوا لنا الأكارم احتفاء وترحينا بنا، وأطلعونا على ما يعتزون ـ ونعتز معهم ـ به من تراث علمي ومادي، وهم يشتكون ـ ونشاطرهم الشكوى ـ من إهمال المسئولين عن الثقافة في العاصمة لذلك التراث الذي يتعرض للتلف... والقوم عنه غافلون، ومعرضون، ولاهون، ومنشغلون بالتافه من الشئون ـ إن الإنطباعات التي سجلتها عن أهل هذه المنطقة التي لم تدنسها فرنسا إلا في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين هي أنهم أحرص ما يكونون على التخلق بأخلاق الإسلام الفاضلة، فلا صحب، ولا هرج، ولا كلام بذيء، ولا منظر قبيح، ولا كاسيات عاريات، والمتبرجات بزينة هن من خارج المنطقة، ولم نر شبابا يرتدون سراويل تكاد تبدي سوءاتهم...كما لاحظنا النظافة النسبية للمدينة مقارنة بقذارة مدننا في الشمال..وقد تعرفنا على إخوة لنا من شمال الجزائر استقروا بالمنطقة وتديّروها، وقد اندمجوا في المجتمع المحلي، وكسبوا بأخلاقهم قلوب أهله، وما ذلك إلا بفضل الإسلام الذي سماه أعداؤنا الفرنسيون "العنصر الموحد".
وبالرغم من أن رواد جميعة العلماء المسلمين الجزائريين لم يصلوا إلى المنطقة لظروف قاهرة، فإن أهلها يذكرونهم بكل إجلال، ويقدّرونهم حق قدرهم، وهم يعلقون على جمعية العلماء آملا فساحا، حيث يكادون ييأسون من غيرها الذين يعدون ويمنون و....فعلى شعبة الجمعية في تندوف أن تكون ـ رغم الصعوبات- عند حسن الظن، ولو بالكلمة الطيبة، وليكن شعار أعضائها "فليسعد النطق إن لم تسعد الحال".
وأما اليوم الأخير من هذه الزيارة فقد مزق قلوبنا، وأدمى أكبادنا وأدمع عيوننا، حيث زرنا إخواننا أبناء الصحراء الغربية في المخيمات التي ألجأهم إليها ظلم ذوي القربى، الذين لم يروا وجود العدو في سبتة ومليلة وظنوا "إخوانهم" في الصحراء هم العدو...
لقد رأينا هياكل تسمى مدارس ومصحات و...وليس من المدارس والمنازل والمصحات في شيء... وأما الناس الذين رأيناهم فلم يبق منهم من الكرامة إلا تلك الأنوف الشم، والجباه التي تأبى الخنوع والركوع.. وتمثل ذلك الشّمم في ذلك المخيم الذي يأوي أولئك المعطوبين في معارك الشرف دفاعا عن العرض والأرض، حيث أمضى بعضهم أكثر من ثلاثة عقود وهم مقعدون.. كما لمسنا ذلك الشمم في متحف المقاومة حيث رأينا الدبابات والعربات والطيارات والمدافع، التي أمدت بها الدول الغربية الجيش المغربي ليستأسد على "إخوان" عزّل، لا يملكون إلا البنادق البسيطة التي حطم بها تلك الدبابات والعربات.. وأسقط بها الطائرات، وأسِر بها الجنود والضباط المغاربة الذين يسلم كثير منهم أنفسهم للمقاتلين الصحراويين حتى لا يشاركوا في حرب ظالمة، ولا رجولة فيها، وحتى لا يموتوا دفاعا عن نظام فاسد يسمي رأسه نفسه "أمير المؤمنين"، وتشبيها - زعم- بأمير المؤمنين الحقيقي، وهو الفاروق - رضي الله عنه - ولعن الله الاشتراك اللفظي كما يقول الإمام محمد البشير الإبراهيمي.
فصبرا أيها الأحرار والحرائر من أبناء الصحراء الغربية وكرائمها، وما العودة إلى وطنكم ودياركم ببعيد، وقد أثبتم في هذه العقود في تلك الظروف أنكم أولى بالحياة من ظالميكم..
وصرخة أوجهها - باسم أولئك الأطفال والنساء والشيوخ - في وجوه إخوان الشياطين من المبذرين، والذين يستكثرون، فقد قرأت في السنة الماضية حوارا لأحدهم يقول بأنه حج اثنتين وأربعين مرة، وأنا أعرف أن هذا الرجل يبدأ حجّه من أول شهر رمضان وينهيه في العشر الأوائل من شهر محرم، ويقيم هذه الأشهر في أفخم الفنادق، ويغمض عينيه ويصم أذنيه عن إخوانه الذين يتربصون بهم "لصوص القلوب والعقول".
بقلم: الهادي الحسني.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

الاكثر تصفح خلال الاسبوع

 
Design by التغيير - | صوت التعبير الحر