الثلاثاء، 6 مايو 2014

العايزة عجنة، من عضو المكتب السياسي إلى عريفة

لم تحضر العايزة عجنة ازربيع، ابنة واحد من شيوخ ومجاهدي أهل الصحراء الذين لجئوا إلى مدينة الطانطان بسبب الخلافات المستمرة مع أسبانيا، إلى مظاهرات الزملة التاريخية في جوان 1970، لكن، مباشرة بعد علمها بما حدث للصحراويين من قمع في تلك المظاهرة، بدأ ضميرها يستيقظ، وبدأت تتحرق أن يحدث أي شيء يفرض على الاستعمار الرحيل. في عمقها كانت تتعاطف مع الذين تم قمعهم في ذلك اليوم، لكن أكثر من ذلك، كانت تتوق إلى المشاركة في عمل تاريخي مهم لصالح قضية الصحراويين المقدسة: الاستقلال.
أخيرا برز شاب ديناميكي، نشط، ذكي، طويل اسمه الولي مصطفى في فضاء منطقة الطانطان في صيف سنة 1972م، وبدأ يلتقي بالصحراويين سرا يفتح رؤوسهم ويؤلبهم على الاستعمار. هناك أسس حركة سرية تضم بعض الشباب والطلبة أطلق عليها اسم الحركة الجنينية، وبدأ يحضر نظريا للثورة الحقيقية بتحضير النشيد والمبادئ والشعارات. كانت الأرضية خصبة، والشعب كان عجينة سهلة التطويع في أي شيء يخص الاستقلال والثورة على الاستعمار. تأسست الجبهة ونفذت عمليتها الأولى يوم 20 مايو 1973م، وفي اليوم الثاني وصلت الأخبار للصحراويين في الطانطان ففرحوا بالخبر. بدأ الحراك السري يتفاعل في قلوب ومنازل الصحراويين في تلك المدينة الصحراوية جغرافية وروحا وتاريخا والتي سلمتها أسبانيا، خطأ، سنة 1958م إلى المغرب. في نهاية سنة 1973م، خمسة اشهر بعد اندلاع الكفاح المسلح، ستدخل العايزة عجنة متأثرة بأفكار الولي وبحماسها وحبها لوطنها الجبهة رسميا. كان الولي بمثابة المفتاح الذي فتح الطريق للكثير من الصحراويين كي يلتحقوا بالنضال في تلك المنطقة. التقت به العايزة مرات كثيرة في عدة اجتماعات، الهبت أفكاره مخيلتها، وفهمت أنه هو وأمثاله هم الذين سيأخذون بيد الجميع إلى الاستقلال، وأن الجبهة هي التنظيم الذي كان ينقص الصحراويين. أدخل الولي وزملاؤه مفردات جديدة على لهجة أهل منطقة الزاك والطانطان مثل الاستقلال، الحرية، النضال، المبادئ، الحركة الجنينية والكفاح. كانت العايزة تحضر وتستمع بانتباه وتفهم، وبدأ عقلها يتسع ويكبر بعد كل اجتماع. في بداية سنة 1974م بدأ التأطير الفعلي للصحراويين في مدينة طانطان، وبدأ التحضير للنضال بجد. التف الصحراويون حول التنظيم الجديد، تم تكوين الخلايا، الفروع، وبدأت الشجرة تكبر وتورق كل يوم.
العريفة تنجو من المخابرات المغربية
تصاعدَ مؤشر النضال، وبدأ المناضلون الأوائل في تلك المنطقة يتجاسرون ويخرجون به للشارع. ذات يوم استدعى الشهيد محمد فاضل محمد عالي، المعروف "بزل عليا"، العايزة ومجموعة من النساء إلى اجتماع وعيَّنها عريفة. لم تكن حتى تفهم معنى كلمة عريفة، لكن رغبة منها في عمل أي شيء لصالح الصحراويين قبلت المهمة، وبدأت تؤطر النساء وتتصل بهن في مدينتي الطانطان والزاك في الجنوب المغربي. بسبب كثرة المهام التي تحملت، تركت العايزة دارها وأولادها ولم تعد ترجع إلا في الليل، أو لا ترجع أحيانا. نشاطها ذلك جعل زوجها يُخيِّرها بين إن تبقى معه وتستقر في دارها مع أبنائها أو النضال. "إما هو والدار والأطفال وإما النضال". هذا ما قال لها في الأخير. لم تتردد، اختارت النضال من أجل قضية الصحراويين المقدسة. حين تم توقيع الطلاق بينهما، قال لها: سيبقى معي الأطفال. كان موقفا من الصعب على كبد أم أن تتحمله. من العسير على أُم أن تترك أطفالها، وأصغرهم عمره ثمانية عشرا شهرا، من اجل قضية. وحتى القضايا الكبيرة في تاريخ الإنسانية تسمح للأم أن تبقى مع أطفالها وتعفيها من النضال. مع العايزة حدث العكس: كانت القضية أكبر والنضال أكبر من الأمومة ومن الاطفال. تركت الأطفال وتفرغت للنضال. أمر غريب قد لا يصدقه أي أحد سمعه، وقد لا يحدث مع أم أخرى في التاريخ لكنه وقع فعلا مع العايزة وحدها.
نشاط جبهة البوليساريو الذي أصبح علنيا في الطانطان والجنوب المغربي بصفة عامة، جعل أسبانيا تنسق خيوطها مع المغرب للقضاء على البيضة في العش. بدأت مخابرات وخيوط المخزن تصطاد المناضلين وتجمع لوائحهم في انتظار أن ترمي عليهم الشبكة مرة واحدة مثل الطيور. في اللحظة الأخيرة، وقبل أن يحدث هذا، استيقظ ضمير أحد الصحراويين الذين يعملون في الشرطة المغربية في المدينة. حضر الرجل إلى اجتماع للشرطة في مقرها العام في مدينة الزاك، وهناك تم الاتفاق على أن تبدأ عمليات القبض على المناضلين الصحراويين الذين ينشطون في صفوف الجبهة. استطاع ذالك الصحراوي الوطني الذي استفاق ضميره في آخر لحظة أن يحصل على لائحة المطلوبين، وبدأ يبحث عن الذين توجد أسماؤهم فيها واحدا، واحدا يعلِّمهم بما سيحصل لهم. أخبر الرجل ما استطاع من الذين توجد أسماؤهم في للائحة التي كانت غالبيتها نساء. جاء الرجل إلى العايزة في الليل في الزاك، واخبرها أنهم يبحثون عنها، وأنهم سيعدمونها إذا قُبض عليها. كانت معها خمس نساء أخريات في اللائحة منهن الشهيرة فاطمة الغالية منت الليلي التي لم تستطيع الخروج، والتي سيتم القبض عليها فيما بعد وتسلخ حياتها كلها في السجن. في تلك الأثناء كانت العايزة مسئولة فرع النساء في الزاك، وحتى لا يبقى فراغ في الفرع قامت بعقد اجتماع وعينت امرأة أخرى في مكانها، وقررت أن تخرج في الليل بعد أن تركت وليدها ذي الثمانية عشر شهرا عند أمها.. خرجت هي وسبع نساء آخريات في الليل. لم يكنَّ يعرفن إلى أين هُنَّ ذاهبات بالضبط. كان المهم بالنسبة لهن هو أن لا يقعن في قبضة البوليس المغربي. خرجت المناضلات السبع في الليل دون خشية من الصحراء المخيفة في الظلام، وتهن في الخلاء. إثنتان منهم جاءهن المخاض في الطريق. بالنسبة للعايزة لم يكن الرجوع والاستسلام خيارا. إلى الأمام، حتى وصلت هي ورفيقة لها إلى المحبس. بعد سبعة أيام جاء الولي مستعجلا يبحث عنها، وطلب منها أن تذهب إلى مخيم الشهيد الحافظ في مهمة مستعجلة.
كوماندوس عسكري من النساء
ذهبت العايزة إلى مخيم الشهيد الحافظ ومعها صديقتها أغيلة عالي علالي، المناضلة الآن في المخيم، أخت الرجل التاريخي البسيط، الغزواني صاحب الطلقة الأولى في معركة 20 مايو. كانت هناك مهمة مستعجلة لن يستطيع القيام بها، حسب تفكير الولي، سوى العايزة عجنة ومثيلاتها في ذلك الزمن. في مخيم الشهيد الحافظ، بدأت هي وسبعة رفيقات أخريات التدريب العسكري الشاق على العمليات الفدائية. كن يتدربن على القنابل، السلاح، الأختفاء، التمويه. كانت الفكرة هي أن يصبحن كوماندوسا فدائيا عسكريا، ويذهبن إلى المدن في الداخل للقيام بالعمل الفدائي. بعد دخول المغاربة تم تغيير الخطة. تم ايقاف تدريب الكوماندوس فجأة، وجاء الشهيد الولي والمحفوظ علي بيبا وطلبا من العايزة عجنة ورعبة محمد سعيد إن يذهبن معهن إلى البلدات المحررة التي تتواجد بها مخيمات صحراوية مثل امكالا وتفاريتي وام دريكة والقلتة. كانت في انتظارها مهمة أخرى مستعجلة كلفها بها الولي. هناك قامت العايزة ورعبة محمد سعيد بدور كبير في تعبئة المرأة الصحراوية في تلك البلدات. على مدى عشرين يوما تقريبا والعايزة ورعبة يعملان دون نوم ولا أكل في الاجتماعات والندوات. حين انتهت تلك المهمة المستعجلة عادت العايزة إلى مخيم الشهيد الحافظ مرة أخرى. لم يمض وقت طويل حتى حصلت الصدمة. استشهد الشاب النحيل الديناميكي الولي، أمين عام الجبهة، الرجل الذي ألهب مدينة الطانطان والصحراء كلها بأفكار النضال، فأحس الشعب الصحراوي، وفي مقدمته العايزة، بشيء ينكسر في داخله. تم تشكيل لجنة تحضيرية للمؤتمر يرأسها الداه الجنوب في مقدمتها العايزة. انعقد المؤتمر الثالث للجبهة، وتم انتخاب لجنة تنفيذية ومكتب سياسي من ضمنه امراتين: العايزة عجنة والحسينة ايدة . العايزة التي تركت أطفالها من أجل القضية وانضمت لكمندوس فدائي أصبحت في المكتب السياسي، ثاني أعلى سلطة في الجبهة. ثقة كبيرة وضعها فيه الشعب الصحراوي تثمينا لتضحياتها بكل شيء – حتى أطفالها- من أجل القضية. تم تكليفها هي والحسنية ايدة بملف الاتحاد الوطني للمرأة الصحراوية. ملف كبير، معقد، لكن الإرادة تتغلب على كل شيء. رغم الصعوبات الثقافية والتقنية إلا أن العايزة تعاملت مع ملف الاتحاد مثلما تتعامل امرأة مع بيتها وأبنائها. إذا رأت شيئا لا يعجبها أو شيئا غير مرتب تقوم بتنظيمه وتنظيفه، لا تنام ولا تجلس ولا تعرف الراحة. وقع على عاتقها ثقل كبير؛ فالنساء كن في البداية جاهلات، متخلفات، والمخيمات ستفرغ من الرجال قريبا، وهن اللاتي سيملأن الفراغ. سيملان الفراغ الكبير في التعليم، الصحة، الإدارة، وبأختصار، سيملآن الثقوب الكثيرة التي سيتركها الرجال الذين سيغيبون إلى القتال. في مدة وجيزة نجحت العايزة في إن تجعل من اتحاد النساء قوة حية ونشطة في الميدان، خاصة في المخيمات. هي التي وضعت قانون الاتحاد وبرنامجه والكيفية التي سيتم تنظيمه بها. حين وقف الاتحاد على رجليه، وأصبح معروفا في الكثير من المحافل الدولية انعقد المؤتمر الرابع. هنا وقفت العايزة فوق منصة التاريخ لتقول بصراحة، إن المسئوليات يجب إن يتحملها الشباب المثقف مثل الولي. اعترفت أمام الجميع أنها لن تترشح، لن تعود للمكتب السياسي، وقالت كلمتها الشهيرة:" لن أترشح، لكن إذا أعطاني الصحراويون مكنسة فسوف أبدأ النظافة غدا." من المؤتمر الرابع بدأت مشاكل السلطة عندنا تتراكم، وبدا المرض ينتشر، وبدأ الطامحون ينظرون إلى ما بعد الثورة ويحلمون بالمناصب والاستقلال، وكل منهم يقول في غرارة نفسه: إذا لم احصل اليوم على مسئولية ومكاسب اليوم سوف لن أحصل عليها في المستقبل." حين كان أولئك يقولون ذلك، كانت العايزة تقول: لن أترشح. اترك المناصب للشباب."
العايزة تكتشف إن لا ملف لها في إدارة الفروع
ورغم أن الجميع طلب منها أن تترشح في المؤتمر الرابع، ومنهم من بكى إلا أنها رفضت. كانت تؤمن بالشباب وتؤمن بالتناوب، ومقتنعة إن الثورة هي تجديد وشباب ومتى تم قطع الطريق أمام الشباب ستتوقف الثورة في نقطة معينة وسيتجمد الدم. من المكتب السياسي مباشرة عادت العايزة إلى المخيم، مثل أية مناضلة، وبدأت تتدرب من جديد وتتكون في مدرسة 27 فبراير. كان من الممكن أن لا تفعل أي شيء من كل ذلك، وان تفرض على التنظيم شروطا أخرى، لكنها لم تكن مقتنعة بذلك. كانت مقتنعة بالصحراويين وبالاستقلال وأعطت عهدا للشهداء. بعد تخرجها من مدرسة 27 فبرائر أصبحت العايزة عريفة لخلية من عشرة مناضلين. عادت إلى الأصل، إلى المهمة التي كلفها بها بطل صحراوي ذات يوم واستشهد: عريفة. وراحت تعمل في صمت: مرة عريفة، مرة مديرة للثقافة، مرة مديرة للتكوين، مرة أمينة حي، مرة مكلفة بالجاليات. بقيت بسيطة جدا مثل الشعب التي أنجبها.
وإذا كانت هي كانت في المقدمة دائما فإن إخوتها لم يتخلفوا عنها ولم يخذلوها. كانوا، هم أيضا، في مقدمة المقاتلين يكافحون ويسخون
بدمائهم في خطوط النار. التواجد في مقدمة المقاتلين في الحرب والمعركة له ثمن دائما. استشهد أخوها بريكة في المعركة سنة 1984م، اما الآخر، الحسين الملقب بالزاوي، فقد جُرح جروحا بليغة في المعركة، وأصبح شبه عاجز.
في سنة ماضية قريبة تكتشف العايزة إن إدارة الفروع تطلب منها أن تجعل لها ملفا مثل كل العريفات. لم يعثروا لها على أي ملف في ركام أرشيفنا الأصفر الكبير. كان الأرشيف ملئا بملفات حتى شابات صغيرات فتحن أعينهن في اللجوء، وبنساء كن عريفات لمدة شهر أو شهرين، أما العايزة، إحدى الأوائل، فلن تكن بينهن. ورغم إن الجميع يشهد لها، وان التاريخ يشهد لها أيضا إلا إن ذلك لم يشفع لها عندنا. كانت ستقول لهم، أسالوا الرجل الذي عينني عريفة في بداية 1974م، لكنها أحجمت لإن ذلك البطل( زل عليا) استشهد.
اليوم، تعيش ببساطة بيننا في المخيم، ومنذ أسابيع فقدت واحدا من أولادها، أحد الأطفال الذين تركت صغارا والتحق بها في اللجوء. الآن تعيش مع عائلتها في دائرة بئر قندوز بولاية أوسرد، تحيط بخيمتها كثبان كبيرة من الرمال، وكثبان أكبر من رمال النسيان التي تعتبر أخطر من كثبان الرمال العادية. معها في نفس المكان يعيش زوجها، السالك، الرجل الذي كان سائقا للشهيد الولي، والذي يحتفظ بالكثير من أسرار الولي، والذي يمكن أن يكون لنا معه لقاء ذات يوم.
هؤلاء هم الذين سيحترمهم التاريخ وسيذكرهم أما الباقي فلا. ألْفُ لا.
المقال القادم باذن الله: الشهيد الحافظ بوجمعة
السيد حمدي يحظيه
الفيس بوك: السيد حمدي يحظيه أو sid hamdi yahdih
Email: sidhamdi@yahoo.es

0 التعليقات:

إرسال تعليق

الاكثر تصفح خلال الاسبوع

 
Design by التغيير - | صوت التعبير الحر