الأربعاء، 28 مايو 2014

بلا احمد زين، الوزير الشهيد

حين التحقنا، ونحن لازلنا أطفالا لا نفهم الكثير مما يحدث حولنا، بمدرسة داخلية في الجزائر سنة 1978م، في مدينة اسمها تغنيف قرب مدينة معسكر، أطلق المشرفون على التعليم الصحراوي على تلك المدرسة اسم " مدرسة الشهيد بلا احمد زين". كان الاسم مكتوبا بعناية وأناقة بالخط الثلثي وبلون أبيض ومعلقا على المدخل الوحيد للمدرسة، وكنا، بسبب إعجابنا بروعة الخط المكتوب به ذلك الاسم، نحاول إن ننحت حروفه كما هي على الورق هكذا: مدرسة الشهيد بلا احمد زين. وكان في مكتب المدير، أيضا، ختم يحمل اسم مدرسة الشهيد بلا احمد زين، وكان العنوان الذي أصبحت تأتينا عليه الرسائل والمراسلات هو "مدرسة الشهيد بلا احمد زين" . كان بلا احمد زين شهيدا في ذاكراتنا الصغيرة، شهيد فقط من جملة الآف الشهداء الذين كانوا يسقطون يوميا آنذاك في المعركة يقاتلون بشجاعة من أجل الاستقلال وانتهى. لم تكن هناك معلومات كافية عنه، ولا نبذة تاريخية ولا أي شيء يجعله يعيش كما هو في ذاكرة التاريخ وذاكرة الناس. حين عدنا في العطلة الصيفية إلى المخيم سنة 1979م، كانت المدرسة الوحيدة التي بنتها النساء بالعرق من الطوب في مخيمنا آنذاك- ولاية السمارة- هي مدرسة الشهيد بلا احمد زين، لكن لم تكن تحمل اسم مدرسة مثلما هي الحال اليوم، إنما كانت تحمل اسم قصر الشهيد بلا أحمد زين فقط... وجود تلك المدرسة باسم ذلك الشهيد، ووجود المدرسة التي كنا ندرس فيها باسم نفس الشهيد جعلني أظن بعقلية الطفل، حينها، أن بلا احمد زين هو شهيد اسمه مخصص فقط لتحمله المدارس. لكن لم ألبث أن اكتشفت حين زرت المستشفى العسكري الذي يعالج فيه جرحى الحرب قرب الرابوني سنة 1982 أنه، أيضا، يحمل اسم الشهيد بَلاَّ احمد زين. ورغم شيوع هذا الاسم إلا انه لا توجد نبذة ولا حتى سطور عن حياته، وقلة هم الآن الذين يتذكروه. أما إذا سألنا الشباب الذي ولد بعد استشهاده فهو لا يعرف أكثر من انه شهيد وانتهى.
الطبيب الذي رفض رفاهية أسبانيا
بلاَّ احمد زين الشاب الهادئ، المسئول، صاحب الإرادة القوية الذي ازداد سنة 1954م بمنطقة الداخلة، سيجعله الطب الذي درس والذي أحب يتحول، بعد إثنين عشرين سنة من ازدياده، إلى شخصية تاريخية عند شعبه وفي ذاكرة التاريخ.. بدأ بلاَّ أحمد زين يدرس في أوسرد ثم انتقل إلى مدينة الداخلة ليواصل تعليمه فأحرز الثانوية في تلك المدينة بالكثير من الصبر، وجعله تفوقه على حتى الأسبان ينتزع منحة من الاستعمار الأسباني يدرس بها الطب في تينيريفي بكناريا بعد حصوله على bachillerato elemental؛ أي بكالوريا أساسية. تخرج بدرجة طبيب مساعد، وتزوج من أسبانية متضامنة مع الصحراويين وتحبهم، وبدأ يعمل في مستشفى الداخلة. في ذهن أي شخص يعرف أسبانيا والغرب بصفة عامة فإن من يتخرج ليمارس مهنة الطب، ويتزوج من أسبانية يعني، أوتوماتيكيا، أنه "سيتأسبن"( يتنصرى)، وأن أبواب أسبانيا ونوافذها وبريقها انفتحت له، وانه يخطط للبقاء فيها ويبني عشه ومستقبله المضمون هناك. بعض رفاقه تصوروا أنه سيبقى لإن الأطباء مطلوبون في أسبانيا المتخلفة آنذاك، وزواجه من الأسبانية يعني أنها ستربطه بسلاسل من الروابط بأسبانيا وستنتزعه من جذوره ومن وطنه ومدينته ومن شعبه ومن عائلته وتذهب به إلى ما وراء البحر. الذين تصوروا ذلك التصور أخطأؤا التقدير، وبدا أنهم لم يهضموا عقلية وشخصية بلا احمد زين بما فيه الكفاية. منطقيا، إن مهنته وزواجه من الأسبانية كانت ستجعله يفكر في مستقبله الشخصي، ويترك السياسة، لكن هو فعل العكس. بدأ نشاطه النضالي مبكرا، وشارك مشاركة نشطة في تأسيس اتحاد الطلبة الصحراويين في أسبانيا، وبدأ يتجاسر ويطلب من الاستعمار أن يتفاوض مع الصحراويين علنا. نشاطه السياسي ذاك وأعماله النضالية، ستجعله يدخل السجن في ديسمبر 1974م في تينيريفي ذاتها هو ومجموعة من رفاقه الشبان المناضلين. في صيف سنة 1975 شارك في تأسيس الاتحاد العام للطلبة الصحراويين، وبدأ يناضل بشراسة في الداخل. كان يستطيع أن يواصل دراسته العلياء في أسبانيا، لكن دقت ساعة الحسم. طلبت جبهة البوليساريو من الطلبة الذين يدرسون في أسبانيا أن يتركوا الدراسة ويلتحقوا بشعبهم لإنه في حاجة إليهم، فالتحق حوالي 80 منهم. حين سمع الشاب بلا بذلك النداء قال لهم كلمته الشهيرة :" لن أبيت ليلة واحدة في أسبانيا." كان من بين ال80 طالبا صحراويا الذين التحقوا بالقضية. حدث العكس تماما: بدل إن تؤثر عليه الزوجة الأسبانية وتربطه بأسبانيا، أقنعها هو أن تذهب معه إلى الصحراء وتنضم لجبهة البوليساريو، وتلتحق بمخيمات اللجوء. وبدل إن يستغل شهادته ويبقى يعمل في أسبانيا يبني مستقبله، ترك كل ذلك الحلم الوردي المضمون التحقيق بما يوفره من أريحية واستقرار وانسجام وعاد لوطنه. بعد تأسيس الجمهورية الصحراوية في 27 فبراير 1976م، وتشكيل أول حكومة في 4 مارس من نفس السنة، أسندت للشاب بلا احمد زين، ذي الأثنين والعشرين ربيعا فقط، واحدة من أصعب المهام في تلك الحكومة وهي مهمة وكيل وزارة الصحة والتربية والشئون الاجتماعية. كان أصغر وزير في تلك التشكيلة، لكنه كان بشخصيته القوية وذكائه قادرا على جعل نفسه يظهر في مسرح الأحداث كرجل مجرب وكبير سنا.
الحرية، زوجة الشهيد بلاَّ احمد زين الأسبانية التي أصبحت صحراوية
في ذهنية الكثير من الصحراويين، أن من تزوج من أجنبية، فإن ذلك يعني أنه انسلخ من وطنه وأهله وشعبه، وأنه سيعيش في المهجر. بالنسبة لبلا أحمد زين حدث العكس: هو الذي أتى بزوجته إلى بلده وإلى واقعه المأسوي أنذاك، وأكثر من ذلك أقنعها أن تذهب مع شعبه إلى خنادق النضال والقتال في الصحراء. هي أيضا، كان تحمل في عمقها بذرة الطيبة والنضال وحب الصحراويين. تركت زوجته الأسبانية كل الرفاهية التي كانت تحلم بها فتاة في مثل سنها في أسبانيا وفضلت حياة الصحراء بما فيها من صعوبة وقساوة وشراسة. غيَّرت اسمها، لغتها وتركت جنسيتها ودارها وأهلها وثقافتها وملابسها وقررت أن تلتحق بالزوج في المخيمات وتعيش معه معاناة شعب بأكمله. هي طبيبة مثله، تمارس مهنة الطب، وحتى تصبح صحراوية أكثر وتمعن في اقتناعها، أصبحت تحمل اسم "الحرية"؛ "الحرية"، أكثر كلمة تغنى بها الصحراويون في كل تاريخهم وقدموا من أجلها الكثير من الشهداء . أصبحت الحرية تلبس الملحفة وتشرب الشاي وتأكل مما يأكل اللاجيئون: الخبز الملوث بالرمل والمغمس في الزيت او حبات من العدس في ماء مغلي. بدأت تداوي الناس تحت القصف في أم دريكة، وكانت مجبرة، بسبب عملها، أن تبقى في الأماكن الخطرة. فأين ما قصفت الطائرات كانت الطبيبة الحرية وفريقها تذهب إلى مكان الأنفجار لتساعد الجرحى. تواجدها في عين الجرح وفي مكان الانفجار، كاد يكلفها حياتها. جُرحت أثناء قصف ام دريكة في الفخذ واليد التي تداوي بها، وأختلط لون الدواء الأحمر الذي كانت تداوي به الجرحى مع دمها. أحرقت قنبلة نابالم مجنونة الخيمة التي كانوا يستعملون كمستوصف بسيط في المخيم. رفضت الحرية أن تذهب إلى أسبانيا للعلاج، وبقيت مصرة إن تبقى مع الشعب الذي تزوجت منه. كان الناس ينصحونها أن تعود إلى وطنها حفاظا على حياتها؛ ينصحونها أن تعود إلى رفاهية أسبانيا وألوانها وأضوائها، لكنها كانت من نفس الطينة التي منها زوجها. كان اقتناعها أقوى من عاطفتها فرفضت العودة إلى أسبانيا، وقررت إن ترحل مع الصحراويات إلى اللجوء. في المخيم بنت خيمة وبيت من الطوب مثل كل الصحراويات، وبقيت هناك حتى بعد استشهاد زوجها.
الشاب، الوزير والشهيد
في تلك الأيام – ابريل 1976م- لم تكن في المخيم حبه اسبرين واحدة ولا حقنة ولا ضمادة ولا قطرة دم في عرق أو وريد، وكان الوضع كارثياً وأكبر بكثير من إن تتم السيطرة عليه. النساء يلدن في العراء، الجرحى يستشهدون في الطريق بسبب نقص الدم، والفوضى عارمة في تلك الصحراء التي اتخذها الصحراويون وطنا مؤقتا. ومما عقَّد الوضع أكثر إن بلاَّ احمد زين كان وزيرا للصحة والتعليم والشئون الاجتماعية في نفس الوقت؛ أي انه وزير الثقل كله، ووقع على عاتقه أكبر تحدي. كانت وزارته – هي في الحقيقة ثلاث وزارات: الصحة، التعليم، الشئون الاجتماعية – هي الوزارة التي تحدث فيها أكبر المشاكل بسبب قلة الامكانيات المادية والبشرية وسوء الوضع البشري للصحراويين آنذاك. لم يكن هناك أطباء ولا معلمين ولا إطارات وكان الوضع يوصف، إذا تحرينا الدقة، بالكارثي.
ورغم الوزارة وما يمكن أن تضمنه من رفاهية حتى في اللجوء، إلا أن الوزير الشاب استهزأ بكل ذلك وبقى يمارس مهنة الطب في الميدان وتحت الخيام، ويعيش بين الناس يداويهم ويسهر على راحتهم. كانت الوزارة بالنسبة له عبئا ثقيلا يضاف إلى مهنة الطب، وكان من الممكن أن يكتفي بتوجيه الأوامر من أعلى وينزع عنه مئزر الممرضين الأبيض، لكنه رفض. بقى وزيرا لكن بمئزر وسماعة طبيب. الذين عرفوه قالوا أنه خلال الفترة التي تقلد فيها الوزارة لم يشاهدوه إطلاقا بدون مئزر الطبيب.
لكن القدر لم يمهل ذلك الشاب أن يبقى يصنع أسطورته في تلك الصحراء طويلا. الأبطال دائما عمرهم قصير بسبب تواجدهم في عين الخطر، وبسبب قيامهم بما لا يستطيع الناس العاديون القيام به. استشهد بلاَّ احمد زين، لكنه لم يستشهد استشهادا حاسما وسريعا في المعركة العادية التي يستشهد فيها المقاتلون وهم يقاتلون. استشهد استشهادا بطئا في معركة أخرى أصعب من معركة الرصاص، معركة هي معركته هو وهو مخترعها، والذي أعطى المثل الأعلى فيها حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. كان هو أول وزير صحة في العالم يعيش يومه بين المرضى والجرحى يتبرع لهم بدمه حين لم يجدوا حبه اسبرين أو حقنة توقف النزيف. كان الناس يموتون أمامه والجرحى يصرخون وينزفون من الألم والنساء الحوامل يلدن في العراء. كان نقص الدم والدواء هو أكبر تحدي للوزير الشاب وطاقمه المتكون من عدة رجال فقط. لا يوجد دم، ولا دواء والناس العادية مصابة بفقر الدم، ولا أحد يعرف فصيلة دمه. هو وحده، بسبب ممارسته الطب، كان يعرف فصيلة دمه، وكان كلما اكتشف إن جريحا أو مريضا ينقصه الدم من فصيلته يتبرع له هو شخصيا. كان يتبرع ويتبرع حتى نفذ دمه كله دون إن يعلم. قبل أن يستشهد بيومين تبرع بالدم لبعض الجرحى، وبدل أن يستقر حتى يعوض ذلك النقص في الدم ذهب إلى أم ريكة التي كانت لازالت تئن تحت مخلفات القصف. لم يكن يولي نصائح الأطباء أي اهتمام لإن الوضع كارثي. كان يتبرع بالدم ولا يأكل ولا يشرب ويسهر حتى الفجر يداوي الناس. لم يكن يؤمن أنه وزير، كان طبيبا فقط وعاش بعقلية الطبيب الذي يتبرع حتى بدمه.. حين وصل إلى أم دريكة بدأ جسده يصفر وبدأت مقاومته تضعف حتى انهار وانتهى. حين استشهد لم يجدوا في عروقه ولا قطرة دم واحدة. حسب الأطباء فإن سبب الوفاة هو تدهور حاد في نقص في الدم. دُفن قرب أحد جبال ام دريكة عند مخرجها الجنوبي أتجاه قليبات الفولة؛ في مكان مرتفع يليق بعظمة الرجل وعلو همته. استشهد في ابريل سنة 1976م، وفي الثانية والعشرين من العمر، تاركا وراءه شعبا معجبا به وبتضحياته وبساطته. حين استشهد أعترف له الجميع بالوطنية الصادقة، بالإخلاص، وانه ليس انتهازيا ولا مرتزقا. كان الوحيد من بين رفاقه الذي كان يستطيع إن يبقى في أسبانيا ويعيش برفاهية، لكنه فضَّل اللجوء والوطن. استشهد وهو وزير، وقد يكون هو أصغر وزير يستشهد في العالم. كان عمره فقط إثنين وعشرين سنة.
السيد حمدي يحظيه
sidhamdi@yahoo.es
الفيس بوك: sid hamdi yahdih أو السيد حمدي يحظيه .





0 التعليقات:

إرسال تعليق

الاكثر تصفح خلال الاسبوع

 
Design by التغيير - | صوت التعبير الحر