السبت، 12 أبريل 2014

اليوم الذي فرَّ فيه الغجدامي من المعركة

كان قادة الجيش المغربي الذين تم الزج بهم في حرب الصحراء يعرفون انه ذاهبون، بكل تأكيد، إلى حتفهم في تلك الصحراء القاسية، المعروفة بانتقامها التاريخي من كل من يعتدي عليها. فالصحراويون، تاريخيا، وفي الذاكرة المغربية وفي ذاكرة المنطقة بكاملها، هم أشداء، أهل نار وبارود، وأهل قتال ولا يستطيع أي جيش إن يقف ففي وجههم. قبل إن تبدأ الحرب في الصحراء، بدأ جنرالات وكولونيلات الجيش المغربي يقرؤون ما كتبه الفرنسيون عن حربهم في الصحراء الغربية في الثلاثينات من القرن الماضي. ما كتبه الفرنسيون مخيف ومرعب؛ فالصحراويون يخرجون من تحت الأرض، من الريح، من وراء الكثبان ومن بين الشجيرات ثم ينقضون على عدوهم ويمزقونه ويحطمونه في دقائق قبل إن تصل النجدات، ثم يختفون في تلك الصحراء التي توفر لهم وحدهم الملجأ، والتي يعرفونها معرفتهم لوجوههم في المرايا ومعرفتهم لأكف أيديهم. من بين الذين قرؤوا تلك الكتب، خاصة كتاب مورييه الذي انهزم في معركة لقليب وهرب، كان هناك، بالإضافة إلى الكولونيل أحمد الدليمي، والعثماني وعبد العزيز البناني، كان محمد الغجدامي. النتيجة، حسب الكتب الفرنسية، كانت دائما كارثية ومحبطة ولا يمكن تصورها، فقد مات جيرار في لقليب، ومات ماك ماهون ابن رئيس الجمهورية الفرسية الذي يسميه الصحراويون مقمق في أم التونسي. فالقادة الفرنسيون الذين شاركوا في تلك الحرب ضد الصحراوين إما ماتوا أو هربوا من المعركة. قراءة ذلك الكتاب جعلت الوكولونيلات والجنرالات المغاربة يتفاجئون أن حتى نهاية القائد الفرنسي المذكور – مورييه نفسه- كانت نهاية مذلة ومخزية حين هرب من أمام المجاهدين الصحراويين في عملية لـﯖليب عام 1913م، وأنه كان ينصح كل من يتقاتل مع الصحراويين، إن أفضل وسيلة للنجاة من قبضتهم ورصاصهم هي الهروب. حين اندلعت نار الحرب بين الصحراويين والمغرب سنة 1975م، كان الغجدامي والطوبجي والعثماني على رأس اللائحة التي وضع الدليمي، والتي أراد لها أن تكون هي حطب المعارك الأولى في الصحراء. لكن من بين كل الجنرالات المذكورين اشتهر الكولونيل محمد القجدامي، ابن مدينة أصيلة، وابن ضابط مغربي متقاعد، درس وتدرب في كلية بورغس الأسبانية الحربية قبل إن ينتقل إلى مدينة سان سير الفرنسية ليواصل تكوينه العسكري استعدادا لمغامرة حرب الصحراء الغربية. اشتهر الغجدامي بالهروب والجبن. أختاره الدليمي هو والبناني لقيادة المعارك وأيده في ذلك الحسن الثاني. حين كان الدليمي هو الآمر والناهي للقوات المغربية، كان محمد القجدامي ظلا له لا أكثر ولا اقل، لكن طاعته وذله لم يشفعان له عند الدليمي؛ بالعكس، كان يتم توجيهه لقيادة القوات المكلفة بالتصادم المباشر مع المقاتلين الصحراويين؛ أي كان يتم توجيهه للموت الذي لا نجاة منه. ففي العقلية المخزنية المغربية من يتم توجيهه للتصادم المسلح والمباشر مع الصحراويين يعني أن قيادته تريد التخلص منه. حدث هذا للكثير من الضباط المغاربة مثل عمر العيساوي الذي مات سنة 1977م في اشتباك في مدينة السمارة، والعقيد اوسليم الذي مات في نفس السنة بئر انزران، والعقيد الخطابي الذي مات في توكات في نفس السنة..
إن تواجد الغجدامي في خطوط النار الحمراء كاد إن يكلفه حياته في أكثر من مرة، بل إنه في بعض الأحيان كاد يقع في الأسر. الوقوع في الأسر كان مخيفا بالنسبة للضبط المغاربة الكبار، خاصة بعدما شاهدوا صور النقيب الأسير الطاهيري الطاهر، أول أسير مغربي، على صفحات الجرائد وفي التلفزيون.
فهِم الغجدامي الدرس جيدا. أصبح تكتيكه يعتمد على تحاشي الصدام المباشر مع المقاتلين الصحراويين والهروب من أمامهم، لكن من جهة أخرى كانت أوامرالدليمي القاسية تلهبه من الأعلى وتتوعده بالعقاب إن هو لم يتصادم مع البوليساريو مباشرة. كان الدليمي والحسن الثاني، خاصة بعد معركة أمغالا الثانية يوم 14 فبرائر 1976م، يريدان القضاء على البوليساريو في عمليات كبيرة وسريعة وينته الأمر. لا أحد من الرجلين كان يتصور مقاومة بهذا الشكل وهذه الشجاعة وهذه القدرة الفائقة على الحرب التي أبداها الصحراويون. تم توجيه الكثير من الفيالق الجرارة إلى الصحراء، لكن كان يتم اصطيادها بسهولة ويسر في تلك الصحراء. كانت وحدات البوليساريو حين تعلم إن وحدة مغربية جرارة تتوجه في رتل، بطريقة كلاسيكية، إلى مكان ما، تُكمن لها، ثم حين تصبح في المنتصف يتم استهداف سيارات المقدمة وسيارات المؤخرة فترتبك تلك القوة ولا تعرف هل تتقدم أم تتأخر. حين ترتبك القوة يتم الإجهاز عليها وإبادتها عن أخرها. الكثير من الفيالق المتحركة تمت إبادتها بآلياتها وجنودها كلية بتلك الطريقة المفاجئة السريعة قبل إن تتدخل النجدة. الكثير من تلك الفيالق لم يرجع منه حتى من يخبر إدارة الحرب بما وقع. بعد الهزائم الأولى التي لحقت بالقوات المغربية تم تشكيل فيالق متنقلة للنجدات، كل فيلق يغطي مساحة عملياتية محددة. أصبح القجدامي قائدا للفيلق المتحرك السادس للمشاة الميكانيكية RTMالذي يقاتل وينجد في نفس الوقت.
كان القجدامي حين يحس أنه مستهدف وأن فيلقه المتحرك ستتم مهاجمته، كان يفكر أول ما يفكر فيه هو الهروب والنجاة بنفسه وبفيلقه حتى لا تتم إبادته. أعتمد أسلوب ونصيحة مورييه الفرنسي الذي هرب نحو موريتانيا بعد هزيمته في لقليب سنة 1913م..فحين تقترب وحدات البوليساريو أو يتم كشفها، وبدل أن يرسم الغجدامي خطة للتصادم والتعارك معها، كان يرسم خطة للهرب. أصبح أشهر قائد ميداني يهرب من المعركة أمام البوليساريو، وتمت حتى مكافأته من طرف الحسن الثاني في مرتين لإنه هرب. كان الحسن الثاني يبرر هروبه ذاك بأنه أنقذ القوات المغربية من إبادة محققة.
يوم هروب الغجدامي عن الشاحنات
لكن أشهر عملية هروب وأظرفها قام بها الغجدامي هي هروبه في الليل من معركة قرب سبخة أريدال في شهر جوان 1980م.
فبعد استطلاع منطقة العرقوب في عمق الصحراء الغربية، غير بعيد عن الساحل، قررت نواحي الجنوب آنذاك- الثالثة والأولى والرابعة- أن تنفذ عملية عسكرية هناك. كانت العملية تستهدف القوة التي يقوها الغجدامي والتي كانت تتحرك في تلك المنطقة. في الخامسة صباحا تمت مهاجمة الموقع، لكن قوة القجدامي لم تكن موجودة. بعد وقت قصير من الاشتباك، وبعد التأكد إن قوة القجدامي لم تكن موجودة، قررت الوحدات الصحراوية العودة إلى مواقعها في المناطق التي تسيطر عليها. تم الانسحاب بسرعة، وحين وصلت تلك الوحدات السريعة الحركة إلى منطقة غراير تبعد حوالي 50 كلم عن العرقوب أخذت استراحة.
ذلك الهجوم الذي وقع في العرقوب ذلك اليوم، في منطقة تحت " سيطرة" القوات المغربية، جعل جرس الاستنفار يُدق بسرعة. جاءت أموار مغربية علياء إلى طائرات الاستطلاع بمتابعة تحركات المهاجِمين، وجاءت أوامر أخرى إلى فيلق القجدامي بالمطاردة. حين تم اكتشاف القوات الصحراوية التي نفذت الهجوم على العرقوب متمركزة، تحرك فيلق القجدامي من بوجدور متجها إلى حيث تستريح تلك القوات الصحراوية. فيلق القجدامي الذي كان الهجوم موجها إليه في العرقوب هو الذي سيقوم بالمطارة؛ أي أنه سيطارد حتفه في تلك الصحراء التي لا يعرف عنها أي شيء، والتي لا ترحم الدخلاء.
قبل الضحى بقليل وصل فيلق القجدامي إلى مكان استراحة القوة الصحراوية. بالنسبة للتكتيك الصحراوي، لم يكن الاشتباك مع قوة كبيرة مثل ذلك الفيلق مناسبا في تلك المنطقة. تم الانسحاب بسرعة من أمام الفيلق المغربي، مع ترك مسافة معه لا تجعله يرجع، لكن، في نفس الوقت، لا تعطيه الفرصة أن يلحق خسائر بالقوة الصحراوية. بأمر من قيادتها توجهت القوة الصحراوية، بخطة ومناورة مقصودة، نحو سبخة أريدال في ضواحي بوجدور، وهي سبخة معروفة في المنطقة بخطورتها وبوعورتها، وبصعوبة الخروج منها. قبل إن تصل القوة الصحراوية إلى ضواحي السبخة بدأت تناور، توهم القوة المغربية أنها تعيش حالة فوضى وارتباك. تلك المناورة جعلت القوة المغربية تطمع وتزيد من وقع وسرعة المطاردة. حين وصلت القوة الصحراوية إلى السبخة انحرفت قليلا وحاذتها من الغرب دون أن تبتعد عنها. ظن القجدامي، قائد الفيلق المغربي الكبير أن القوة الصحراوية أخطأت، لكنه كان هو الذي أخطأ. أراد إن يحاذي القوة الصحراوية ويسبقها لبعض المرتفعات تظهر في الأفق. أراد أن يختصر المسافة، لكنه وقع في قلب فخ من الملح. توغلت عرباته وسيارته في منتصف السبخة، وبدأت تغرق ببطء وهي تحاول الخروج.. نجحت الخطة الصحراوية، غاصت القوة المغربية في الملح والوحل. بدأت الصواريخ تنهال عليها من كل النواحي بدون رحمة. أصبحت محاصرة، غير قادرة على التقدم وغير قادرة على التأخر. لم تخرج منها إلا بعد منتصف النهار، وبصعوبة. تقدم ما تبقى من تلك القوة منهوكا، مبعثرا، وغير قادر على القتال، وبالمقابل تحصنت القوة الصحراوية في بعض المرتفعات وبدأ الاشتباك من جديد. من الواحدة ظهرا والنار مشتعلة حتى التاسعة ليلا، ولو لا الظلام لما عاد جندي واحد من تلك القوة. تدخل الطيران لكن تم إسقاط أول طائرة مقاتلة حلقت ذلك اليوم وتم اسر ربانها. بعد سقوطها أصبحت السماء صافية من الطيران، وبدأ المقاتلون الصحراويون يصولون ويجولون في الميدان بحرية. تحولت السبخة إلى مجزرة للعتاد ولللآليات المعطوبة والمحطمة التي لازالت بقايا إلى اليوم يلتهمها الصدأ والملح. لم يبق مع القوة المغربية الكثير من العتاد، ولم يبق الكثير من رجالها، لم تستطيع أيضا إن تنسحب لإن السبخة أصبحت عند ظهرها. في الليل اجتمعت القوة الصحراوية ووضعت خطة مستعجلة للقضاء على ما تبقى من ذلك الفيلق في فجر اليوم الموالي.
على الجانب الآخر،- جانب الفيلق المغربي- رأى القجدامي أنه إذا انتظر الصباح فإن ذلك يعني أنه ينتظر نهايته وهزيمته في تلك السبخة أو أسره حيا. لم يكن أمامه من مفر سوى الهروب، لكن في نفس الوقت هو غير قادر على الرجوع لإن السبخة وراء ظهره، ولإنها بالأمس تحالفت مع القوات الصحراوية وكبدته خسارة كبيرة. الخطة الوحيدة التي ظن أنها ستنجيه هي الفرار. حضَرت نصيحة مورييه ( كان ينصح بالهروب من أمام الصحراويين حين كان يحارب في الثلاثينات) إلى ذاكرة القجدامي في تلك اللحظات المحتدمة، فقرر أن يهرب. رسم خطة هروبه بذكاء هكذا: يشعل محركات عدد من شاحنات ج م س الكبيرة، ويتركها تهدر، ثم يطفئ الضوء وينسحب بما تبقى من قواته مهزوما قبل إن تحل نهايته.
أظلمت الدنيا، ولم يعد يظهر أي شيء في تلك الصحراء الواسعة. لم يبصر استطلاع القوة الصحراوية أي ضوء في المكان، وكان يسمع فقط أصوات تلك الشاحنات تهدر. ظنوا إن القوة لازالت في مكانها، لكنها، في الحقيقة، كانت قد انسحبت هاربة. مع حلول الفجر، حين تحركت القوة الصحراوية كي تقضي على من تبقى من ذلك الفيلق لم تجد سوى مجموعة من الشاحنات محركاتها مشتعلة فتبعت القوة المغربية المنسحبة، ولحقت بها قبل إن تدخل بجدور فكبدتها خسائر فادحة، ولم ينجو منها سوى مجموعة قليلة على رأسهم قائدها القجدامي. هروب القجدامي ذلك كلف القوات المغربية خسارة فيلق بأكلمه. بعد تلك العملية استدعى الحسن الثاني القجدامي وعلق له رتبة جديدة كونه " أنقذ" قوة من الدمار. ورغم التوشيح بوسام إلا أن الحسن الثاني في داخله، لم يسمح له هروبه وجبنه ذلك فأحاله سنتين بعد ذلك على التقاعد الإجباري وبقى فيه حتى مات سنة 2003م. نجا القجدامي في الكثير من المرات من محاولات قنص استهدفته، منها توجيه قذيفة له في القلتة أصابت رأس الجندي الذي كان معه في السيارة، ومرة انفجر به لغم، لكنه نجا.
كل هذه المعارك الباسلة الكبيرة هي في طريقها إلى النسيان، وإذا لم نكتب عنها ستصبح مستقبلا منسية كأنها لم تحدث أبدا في تلك الصحراء التي تنسى بسرعة.
المقال القادم باذن الله: يوم القبض على لعبيدي عبد السلام
السيد حمدي يحظيه
Sidhamdi@yahoo.es
الفيس بوك: السيد حمدي يحظيه أوsid hamdi yahdih

0 التعليقات:

إرسال تعليق

الاكثر تصفح خلال الاسبوع

 
Design by التغيير - | صوت التعبير الحر