الأحد، 10 نوفمبر 2013

أسد الجبارين ياسر عرفات

تصادف يوم غدٍ الاثنين الذكرى السنوية التاسعة لاستشهاد الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات "أبو عمار"، الذي كرس حياته في خدمة القضية الفلسطينية على طريق الاستقلال والحرية.
ففي الحادي عشر من نوفمبر 2004، رحل "أبو عمار"، إثر مرض مفاجئ أصيب به، لم يمهله كثيرا، تكشف بعدها أنه مات مسموما.. وتدهورت حالته الصحية بشكل سريع أواخر أكتوبر، الأمر الذي استدعى نقله على متن طائرة مروحية إلى الأردن، ومنها إلى مستشفى "بيرسي العسكري" في باريس، حيث توالت من هناك الأخبار حول تدهور وضعه الصحي، إلى أن جاء خبر وفاته الذي أثار حزن وغضب الجميع.
وفي ذلك اليوم توقف قلب "أبو عمار" عن الخفقان إيذانا بانتهاء مرحلة هي من أهم وأعقد وأغنى مراحل التاريخ الفلسطيني المعاصر.
وفي اليوم التالي أقيمت له ثلاث جنازات رسمية كرئيس دولة، الأولى في باريس حيث كان على رأسها الرئيس الفرنسي جاك شيراك، والثانية في القاهرة شارك فيها عدد من زعماء العرب والعالم، والثالثة في مدينة رام الله ليوارى الثرى بشكل مؤقت، حتى دفن حسب وصيته في القدس الشريف عاصمة دولة فلسطين، كما أقيمت له جنازة رمزية في الوقت ذاته في قطاع غزة.
ويعد الراحل ياسر عرفات سياسي فلسطيني وأحد رموز حركة النضال الفلسطيني من أجل الاستقلال ولد في القدس في 4 أغسطس 1929.
إسمه الحقيقي محمد عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني وكنيته، عرفه الناس مبكرا باسم "محمد القدوة"، واشتهر بكنيته "أبو عمار".
شارك "أبو عمار" ومجموعة من الوطنيين الفلسطينيين في تأسيس "حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح" في الخمسينات، وأصبح ناطقاً رسمياً باسمها في 1968، وانتخب رئيساً للجنة التنفيذية بمنظمة التحرير الفلسطينية في فبراير 1969، كثالث شخص يتقلد هذا المنصب منذ تأسيس المنظمة عام 1964، بعد أحمد الشقيري ويحيى حموده.. وهو القائد العام لحركة فتح أكبر الحركات داخل المنظمة التي أسسها مع رفاقه عام 1959.
كرس معظم أوقاته لقيادة النضال الوطني الفلسطيني مطالباً بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. قاد الكفاح الفلسطيني من عده بلدان عربية بينها الأردن ولبنان وتونس.
أهم تحول سياسي في مسيرته حدث عندما قبل بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 بعد إنعقاد مؤتمر مدريد، وبعد قبول المنظمة بحل الدولتين دخل في مفاوضات سرية مع الحكومة الإسرائيلية تمخضت عن توقيع اتفاقية أوسلو والتي أرست قواعد سلطة وطنية فلسطينية في الأراضي المحتلة وفتح الطريق أمام المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية على الحل الدائم.. وبعد توليه السلطة، فاز مع إسحاق رابين وشمعون بيريز بجائزة نوبل للسلام عام 1994.
يذكر أنه في الأول من أكتوبر 1985 نجا ياسر عرفات بأعجوبة من غارة إسرائيلية استهدفت منطقة "حمام الشط" بتونس، أدت إلى سقوط عشرات الشهداء والجرحى من الفلسطينيين والتونسيين.
وبعد إعلان استقلال فلسطين بالجزائر في ال15 من نوفمبر عام 1988، أطلق في ال13 وال14 من ديسمبر للعام ذاته في الجمعية العامة للأمم المتحدة مبادرة السلام الفلسطينية لتحقيق السلام العادل في الشرق الأوسط.
وانتقلت الجمعية العامة وقتها إلى جنيف بسبب رفض الولايات المتحدة منحه "أبو عمار" تأشيرة سفر إلى نيويورك، وأسست هذه المبادرة لقرار الإدارة الأميركية برئاسة رونالد ريغان في ال16 من الشهر ذاته، والقاضي بالشروع في إجراء حوار مع منظمه التحرير الفلسطينية في تونس اعتبارا من 30 مارس 1989.
في ال13 من سبتمبر من العام 1993 وقع أبو عمار ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق اسحق رابيين اتفاق إعلان المبادئ "اوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل في البيت الأبيض، حيث عاد ياسر عرفات بموجبه على رأس كادر منظمة التحرير إلى فلسطين، واضعا بذلك الخطوة الأولى في مسيرة تحقيق الحلم الفلسطيني في العودة والاستقلال.
وفي العشرين من يناير 1996 انتخب ياسر عرفات رئيسا للسلطة الوطنية الفلسطينية في انتخابات عامة، وبدأت منذ ذلك الوقت مسيرة بناء أسس الدولة الفلسطينية.
غاب أبو عمار قبل تسع سنوات بجسده، لكن إرثه النضالي ومنجزاته الوطنية لا زالت قائمة تنهل منها الأجيال لمواصلة الكفاح من أجل التحرر وبناء أسس الدولة الفلسطينية.
ولم يكن ياسر عرفات خلال سنين حياته مجرد مقاتل يحمل بندقية، وإنما كان أيضا الزعيم الملهم الذي وضع، في ظروف هي غاية في التعقيد أسس الدولة الفلسطينية، بدءاً بدوائر منظمة التحرير الفلسطينية التي عنيت بمختلف جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والثقافية للشعب الفلسطيني، وانتهاءً بتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية في الرابع من مايو 1994.
وبعد ثمانية أعوام على وفاة أبو عمار قام وفد من خبراء سويسريين وروس بقيادة أطباء فلسطينيين، بأخذ عينات من رفات القائد الراحل، من أجل التحقق في أسباب وفاته، حيث أعلن رئيس لجنة التحقيق الوطنية المكلفة بالتحقيق بظروف استشهاده اللواء توفيق الطيراوي، أن المعطيات التي توفرت للجنة عقب تسلمها تقارير الفريقين الروسي والسويسري، تشير إلى أن وفاة الرئيس ياسر عرفات لم تكن طبيعية بل نتيجة مادة سميّة.
قدر مع الحياة
ولأبي عمار قصة أخرى مع ثنائية الموت والحياة ، فالرجل شارف الموت مرات كثيرة في حياته ولكنه ينجو كل مرة منها بقدر ومعجزة إلهيين. فلا محاولات الاغتيال تمكنت منه رغم أنها حصدت أرواح رفاقه المخلصين من أبي جهاد إلى أبي أياد، ولا حتى حادث سقوط طائرته في الصحراء الليبية مسه بسوء..رغم أنه حادث يندر النجاة منه، كل مرة يعيش بمعجزة مستجيبا لقدره في أن يحيا ويواصل مسيرة كفاحه من أجل فلسطين.
وهو اليوم محاصر من قبل دبابات شارون، مغضوب عليه أمريكيا، متجاهل من قبل أغلب الحكومات العربية..ويواجه كل ذلك بعناد وصبر كبيرين. فالرجل تعود على الحصار وخرج منه دائما سالما أكثر عزما منه من قبل. وكثيرا ما كان حصار “الأشقاء” أشد مرارة على قلبه من حصار الأعداء. والذين يراهنون على عزله وتعويضه بأحد مساعديه يعيشون وهما كبيرا لأن من يحاول أن يأخذ مكان عرفات وهو مازال حي يرزق ينتحر بنفسه أمام الشعب الفلسطيني. ونذكر جميعا منذ بضعة أيام خلت كيف غضب الزعيم على قائد جهاز الأمن الوقائي بالضفة الغربية، جبريل الرجوب، وشهر مسدسه في وجهه..وكيف عاد إليه هذا الأخير مؤديا التحية العسكرية وواضعا نفسه تحت إمرته كجندي تحت تصرف قائده. وصفح عنه أبو عمار كما صفح عن الكثيرين من قبله.
أبو عمار المقاتل
في بداية شبابه، لم يكن ياسر عرفات يؤمن بسبيل آخر لتحرير فلسطين غير الكفاح المسلح. وقد شارك في القتال مبكرا رغم صغر سنه. أعرض الآن مشهد أول معركة مسلحة يخوضها أبو عمار.
كلف القائد المصري الذي يقود كتيبة طلبة متطوعين للقتال في فلسطين سنة 1948 طالبا فلسطينيا اسمه محمد ياسر القدوة بمهمة إطلاق قذيفة مورتر على أول مصفحة تتصدر الرتل الإسرائيلي قريبا من مدينة غزة. كان الكمين محكما وكانت مهمة الطالب الفلسطيني ستكون الأكثر حسما في نتيجة المعركة. تقدمت المصفحات وأطلق محمد ياسر القذيفة وأصابت الهدف وتوقف الرتل وتعالى الدخان الذي كان كثيفا..فسهلت مهمة المقاتلين في المعركة. كانت أول حربا مسلحة يخوضها من سيصبح اسمه فيما بعد ياسر عرفات أو ابو عمار. كان الشاب يؤمن إيمانا عميقا بأن طرد اليهود لن يتم إلا عبر القوة المسلحة.
خيبة الأمل
لكن الضابط المصري الكبير الذي جاءهم باسم تحرير فلسطين تقدم من عرفات ورفاقهم وطلب منهم تسليم أسلحتهم. علق عرفات لاحقا على الحدث قائلا “لا يمكنني أبدا أن أنسى ذلك المشهد. كنت في غزة حينما جاء ضابط مصري إلى مجموعتي وطلب منا أن نلقي بالسلاح. في البداية لم أكن أصدق ما أسمع. قلنا للضابط : لماذا ؟ فأجابنا الضابط بأن ذلك أمر من الجامعة العربية. كان احتجاجنا بلا صدى إجابي. وأعطاني الضابط وصل تسلم لبندقيتي مع وعد بإعادتها لي بعد انتهاء الحرب”. انتشر الكلام عاليا لدى الفلسطينيين الذين قالوا أن عدوهم الأول بعد الإسرائيليين هم العرب أنفسهم. فقد انسحبت جيوشهم جميعا من المواقع التي احتلوها وحتى من مواقع كانت محررة من قبل بسبب قرار التقسيم. فباستثناء الجيش الأردني الذي حافظ على الجزء العربي من القدس فقد تراجع البقية..كان الجميع يهتف علنا أم همسا : خيانة ! بعد أربع سنوات فقط جاء جمال عبد الناصر إلى الحكم في مصر ليؤكد رأي الفلسطينيين في أن ما حدث كان خيانة وتحدث عبد الناصر طويلا عن الأسلحة الفاسدة وعن المرارة التي كان يشعر بها الضباط المصريون المحاصرون بسبب خيانة قيادتهم في القاهرة.
وكان الأمين العام للجامعة العربية عبد الرحمان عزام في المشهد أيضا فقد أعلنت جامعته يوم 10 يونيو / حزيران 1948 وقفا لإطلاق النار لمدة ثلاثين يوما. خرج يومها عزام باشا من مكتبه متمتما “لن يغفر لنا الشعب العربي أبدا ما فعلناه لفلسطين”.
المهم، أن الشاب عرفات تأكد له أن تحرير فلسطين لن يتم إلا عن طريق الفلسطينيين أنفسهم وأن العرب، باستثناء الدعم الكلامي أو بعض الأموال، لن يقدموا لفلسطين كثيرا. وعادت به الأيام إلى طفولة بعيدة في أحد أحياء القاهرة المزدحمة.
من هو ومن أين جاء؟
الإسم الرسمي المسجل لابي عمار في دفتر الحالة المدنية هو محمد ياسر القدوة حيث تمت ولادته في مدينة القاهرة يوم السبت 29 أغسطس 1929. وهي السنة التي اشتد فيها القتال بين المقاومين العرب الفلسطينيين من جهة وقوات الاحتلال البريطاني وحلفاؤهم من اليهود من جهة أخرى. ولكن ما الذي دفع بعبد الرؤوف القدوة والد ياسر عرفات إلى الانتقال إلى مدينة القاهرة بدل العيش في فلسطين ؟ هناك إجابتان شائعتان : الأولى تقول أن رحيله كان بسبب طرد البريطانيين له ونفيه لما أبداه من أنشطة نضالية في مقاومتهم. أما الثانية، وهي الأكثر خبثا، فتقول أن السبب الحقيقي هو بيع والد عرفات لأراضيه لليهود نظرا للأسعار المغرية التي عرضوها عليه. كان الرجل ميسورا فهو تاجر معروف ولكنه اختار تأسيس مشروعا آخر في القاهرة يتمثل في مصنع للأجبان. عوائد هذا المصنع وأرباحه كانت تذهب إلى فلسطين لدعم المقاومة والعائلات الفقيرة. من المؤكد أن عبد الرؤوف القدوة كان شديد الكرم ولم يكن تاجرا جشعا لا تهمه إلا مصلحته الخاصة. وكان ترتيب عرفات السادس في عائلة تتكون من سبعة أبناء. أمه تسمى زهوة (الاسم الذي أطلقه عرفات على ابنته لاحقا)، وهي امرأة منحدرة من عائلة أبو سعود القاطنة بالقدس. وتتميز بخصال حميدة منها قوة الشخصية وحرارة التواصل مع الآخرين. أما أبيه فينتمي إلى فرع الحسيني بغزة على عكس الشيخ أمين الحسيني الذي ينتمي إلى الفرع الأقوى المتمركز في مدينة القدس.
أبو عمار إذن قاهري المولد، نسبة إلى مدينة القاهرة، نشأ في أحيائها وأزقتها وهو ما أكسبه حب مصر مبكرا والالتجاء إليها كلما عاش موقفا صعبا يبحث فيه عن من ينجده. كما عاش طفولة غير عادية حيث استهواه النضال مبكرا وسرق منه كل سنوات عمره : الطفولة والمراهقة والشباب والكهولة ولم يتفطن لضرورة الزواج إلا وهو شيخ تجاوز الستين.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

الاكثر تصفح خلال الاسبوع

 
Design by التغيير - | صوت التعبير الحر