الاثنين، 10 مارس 2014

الدَّاه الجنوب


حينما نشرت على الفيس بوك صورة قديمة لي مع المقاتل التاريخي الدَّاه الجنوب، بدأ بعض الشباب يسأل عن من هو الداه الجنوب.؟ أسئلة أولئك الشباب عن من هو الداه الجنوب أحزنتني كثيرا، وأشعرتني بأن ذاكرتنا صارت قزمة ومثقوبة ومصابة بمرض الزهايمر ويسيل منها الماء ومملوءة بالتراب والغبار. أشعرتني تلك الأسئلة أننا بدأنا نتعب من تاريخنا ومن رجالنا ومن أبطالنا، وبدأنا نترك ذلك التاريخ خلفنا وننساه مثلما ننسى ماذا أكلنا أمس، وكم سيجارة دخنَّا وكم وماذا.. الآن الناس يسألون من هو الداه الجنوب، وأين يسكن وما هي قصته، ولماذا أخذت الصورة معه ونشرتها.؟
لنبدأ من قصة الصورة.. في سنة 1999م، حين كنا نعمل مع لجنة تحديد الهوية، تعرفت على الداه الجنوب، أنا الذي كنت اسمع به فقط واسمع بقصة تحديه؛ تعرفت عليه يعني وقفت أمامه، صافحته، بل صادقته أيضا وتحدثنا كثيرا وطويلا، لكن لا أعرف لماذا لم أساله عن قصته مع المسئولية التي كان يشغل. كنت قريبا منه بسبب ما كنت سمعت عنه في الماضي، حين كان حطب الحرب -التي لا يعرف كل الرجال للأسف ما معناها- الرجال، والأبطال منهم خاصة وهم قلة. كان سبب تقربي آنذاك من الداه هو إعجابي وتعجبي مما حدث له ومن قصته في الجبهة ومع التنحية أو تجميد العضوية. ومن حسن الحظ – أو من سوئه أيضا لإنني لم استغل فرصة عملي مع الداه كي أكتب منه وعنه- أنني عملت مع الداه – أنا مراقب وهو شيخ لتحديدي الهوية- في مدينتي الطانطان وتارودانت. كان الداه يحمل معه دائما كاميرا يصور بها، وكان مهتماً بالصورة، فقلت له مرة ونحن في تارودانت: لنأخذ لنا صورة معاً. في نفسي كنت أريد إن ألتقط صورة مع رجل تاريخي من رجال أهل الصحراء الأوفياء النادرين؛ صورة ربما أحتاجها في يوم من الأيام- فعلا احتجتها اليوم-. وللمفارقة إن المرأة التي أخذت لنا الصورة هي إسرائيلية كانت تعمل مع لجنة تحديد الهوية المينورصو، لكن متلبسة في صورة مواطنة عربية.
الداه الجنوب هو صحراوي من الأوائل الذين أسسوا جبهة البوليساريو، وارتقى إلى عضوية مهمة في سُلَّمِ الجبهة، ثم بسرعة البرق تم تجميد عضويته ووضعه في أخر الصف أو في الأرشيف؛ أي تم تجميد عضويته من مسئول كبير وعضو بارز إلى جندي أبسط من بسيط يحرس قرب مركز الرابوني في انتظار أن يذهب إلى جبهات القتال. البعض يقول الآن إن تجميد عضويته حدثت بسبب خطأ أرتكبه، لكن أنا شخصيا، وأظن إن الكثيرين يشاطروني الرأي، لم أقتنع ولن اقتنع أبدا ًحتى لو أتوا لي بألف حجة، وحتى لو قالها لي هو شخصيا، انه ارتكب خطأ بالحجم الذي يمكن أن يعاقب عليه حتى يتم تجميد عضويته هكذا. الخطأ الذي من الممكن أن يؤدي إلى التنحية من مسئولية كبيرة مثل التي شغل الداه إلى درجة الصفر، هو التخابر مع العدو أو الذهاب إليه، وهو لم يفعل هذا أبدا. بعد تجميد عضويته بالطريقة التي حدثت- هنا لا تهمني التفاصيل- لم ينفعل الداه ولم يذهب إلى المغرب ولم يذهب إلى أي مكان، لكن وببرودة أعصاب نادرة أخذ سلاحه وذهب إلى خندقه في جبهة القتال ليبرهن أنه ليس هنا من أجل المسئولية أنما من أجل الصحراء. كان يريد إن يبرهن للجميع أنه وطني حتى النخاع، وأنه رجل ومقاتل حقيقي، وانه لا يشحت لا المسئولية ولا الزعامة ولا يجري وراءها.. اعطى مثلا لكل الذين ركبوا على ظهور الناس ولم تتم تنحية أي منهم بعده او تجميد عضويته.
تصوروا أننا اليوم أزحنا مسئولا من مكانه أو من مكتبه إلى مكان آخر، أو جمدنا عضويته؟ ماذا سيحدث؟ قد يذهب إلى المغرب أو إلى أسبانيا وقد يتحرك المخيم او قد و..قد ..قد... المهم إن الداه الجنوب كان هو المسئول الأول والأخير على مدى أربعين سنة الذي تمت تنحيته من مسئولية كبيرة بحجم المسئولية التي كان هو يتقلد وإعادته إلى الصفر أو إلى أخر الصف. من جندي بسيط راح الداه الجنوب يحصد إعجاب المقاتلين والمنافقين، على حد سواء، وبدأ يتدرج: أصبح قائد زمرة ثم قائد جماعة ثم قائد فصيلة ثم قائد كتيبة ثم قائد فيلق- من وجهة نظري هو الآن عندي وعند الكثيرين هو قائد ناحية وجنرال ومارشال.
توقفت الحرب، وحين توقفت تم استدعاء الداه الجنوب في بداية سنة 1999م، كي يصبح شيخ يحمل على عاتقه تحديد هوية الصحراويين الذين تتوفر فيهم المقاييس في الجنوب المغربي. إنها مهمة صعبة، ومفخخة ومسممة في آن ولا يتحملها إلا الرجال ذوي القناعة القوية والعزم وحب الصحراء. الصعب في عملية تحديد هوية سكان الجنوب المغربي هو انهم في غالبيتهم صحراويين، لكن المشكلة أن تحديد الهوية كان يتم وفق مقاييس واضحة معنية شبه رياضية: واحد زائد واحد تساوي اثنين. فالصحراويون الحقيقيون الذين يعيشون في الجنوب المغربي كانوا، بسبب الغيرة وحب الانتماء للصحراء، يريدون إن يتم قبولهم كمصوتين في الاستفتاء. كان موقف الداه حرجا، لكنه مثلما تحمل محنة تنحيته من المسئولية في وقت حرج كسنة 1976م، وتحمل مسؤولية القتال، تحمَّل المسئولية في تحديد الهوية. كان يأتيه الأخ، القريب، الصديق والقريب يترجونه كي يقبلهم كمصوتين، لكنه كان يقنعهم بقوله:" الصحراء للصحراويين جميعا، إذا استقلت فهي للجميع، وعملية تحديد الهوية هي فقط عملية تقنية لتسهيل الاستفتاء." كان الكثير منهم يبكي أو يكون على حافة البكاء، لكن الداه كان واثقا مما يقول ومما يفعل. كان الجميع ينظر إليه، وربما أن البعض كان يتهمه انه يريد نزع منه وطنيته، وأنه " خائن" لأهله ولأقاربه، لكنهم في الأخير اقتنعوا جميعا وفهموا، وخرج هو منتصرا من تلك المعركة، بل إن الصحراويين كلهم اعترفوا له بحنكته وبشجاعته وبمسؤليته.
الذي يؤلمني الآن هو أنني لم استغل ذلك الوقت الثمين الذي قضيته مع الداه حتى أساله أكثر وأعرف حقيقة قصته.
وأنا أكتب هذه الأسطر عن الداه، كان التلفون يرن، وعلى الجانب الآخر كان شخص يقول لي:" نشكرك انك نشرت على الفيس بوك صورة للداه الجنوب وعرَّفت الناس به.. إذا أردت أن تعرف أكثر عن الداه يجب أن تسأل عنه فلان، لكن فلان هذا، حسب ما علمت، يوجد في أسبانيا. وسألته: وأين يوجد الداه الجنوب الآن؟ قال لي ذلك الرجل:" إنه في فديرك، في التراب الموريتاني، ويذهب من حين لآخر إلى الناحية.
بقلم : السيد حمدي يحظيه.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

الاكثر تصفح خلال الاسبوع

 
Design by التغيير - | صوت التعبير الحر