الخميس، 27 فبراير 2014

"الطيور المهاجرة" وثائقي يسلط الضوء على القضية الصحراوية خلال الدورة الثالثة لملتقى مخرجي الافلام بتونس


عاشت العاصمة التونسية مؤخرا، لمدة 5 أيام ربيعًا سينمائيا، وأزهر نحو 41 مخرجا تونسيا شابافي قاعات السينما خلال الدورة الثالثة لملتقى مخرجي الأفلام التونسيين.
إنه ملتقى أراده محترفو السينما، حقلا لعرض تجارب شابة تتحسس بذوق وتقنية طريقها نحو الإبداع والتوهج، أدواتهم في ذلك صوت وصورة، فكرة ومعنى... وكان فرصة سانحة لإظهار الأعمال السينمائية اليافعة والتعرف على مخرجين شباب.
من الثلاثاء 12 فيفري إلى الأحد 16 فيفري 2014، تم الاحتفاء بـ 12 فيلما روائيًا قصيرًا و 8 أفلام روائية طويلة، و 21 شريطا وثائقيًا، كان منهم 15 من الوثائقيات الطويلة.
اللافت في الدورة الثالثة لملتقى مخرجي الأفلام التونسيين هو غزارة المشاركة بالأفلام الوثائقية، وهو معطى إيجابي على اعتبار خصوصية تنفيذ مثل هذه الأفلام وصلابتها وحسّاسية توليف سيناريوهاتها، فقد تحدّت محاذير في التناول والحبكة السينمائية.. وغزارة إنتاج الوثائقيات من قِبَلِ مخرجين شبان دليل على آفاق نظرتهم الفنية وتحدٍّ منهم لصعب الفنون وصعابها.
الأفلام الوثائقية المعروضة خلال الملتقى اتسم أغلبها بـ"المحلية"، بل إن 20 فيلما وثائقيا مشاركا لم يغادر "الغرفة المظلمة" لزاوية الإبداع، ولم تتجاوز الأفلام العشرون المعروضة للجمهور، الطابع الخصوصي المحلي، والعمومي القُطْرِي الذي يدور في رقعة جغرا-سينمائية واحدة.
طيرٌ خارج السرب
عمل سينمائي وحيد حلّق في الاتجاه المعاكس للنمطي السينمائي السهّل، شريط وثائقي واحد من 20 شريطًا ظهر أمام صانعه أفقًا إبداعيا أرحب إذ نظر ملء عدسته لبشرٍ خُلقوا أحرارًا، رجالاً ونساءً، لكن بُغّضَ الاشقاء في التراب والدماء بَغَضَهُمْ حريتهم ونثر أجنحتهم واستباح أركان وجودهم..
ذات خميسٍ ربيعي ولمدة ساعة وربع الساعة في قاعة "الفن السابع" بوسط العاصمة تونس، تعرّفنا عن دمٍ يعنينا، تحسّسناه منّا، يعيش فينا، ينادينا،، اكتشفنا أصلنا الصحراوي البربري، الأمازيغي، العربي، الاسلامي، ما يزال منتصب الشرف قائمًا، لم يمسسه عارْ، بفضل سواعد رجال صحراويين وعزائم نساء صحراويات، بفضلهم في وطنهم بالجمهورية الصحرواية العربية الديمقراطية..
المخرج الشاب أكرم منصر(خريج جامعة السينما التونسية)، كشف لجمهور السينما في تونس ، قضية منسية، متناسينها –عن اضطرار وجبر لا عن اختيار-، قضية لها من الراهنية الوجودية والانسانية ما يدعو كل عاقل، واعٍ إلى إعادة التأمل والتأويل في ما حوله وفي من حوله.
شريط الطيور المهاجرة، هو أول أعمال المخرج أكرم منصر من الصنف الطويل، بسطه أمام جمهوره، سبْقًا سينمائيًا وثائقيًا ، خلال الدورة الثالثة لملتقى مخرجي الافلام، لم يبتغ بعرضه تحصيلا أو مقابلا، بقدر ما روّض رهانه على إصابة الهدف الثقافي لقشع "ضبابية القضية" بخصوص الصحراء الغربية، في ذهن التونسيين، الذين أمات التعتيم الإعلامي أيام الدكتاتوريات، جذورهم المنبثقة في الصحاري وصمْ الصخور. وبقدر ما ابتغى المخرج طرد القوالب الجاهزة والأحكام الزائفة بخصوص أحقية إخواننا الصحراويين في تقرير مصيرهم، بالشرع الإنساني والشرعية الدولية التي أمضتها محكمة لاهاي الدولية بالإيجاب..
فيلم الطيور المهاجرة، لخّص –بالإبداع المُدْرَكْ والامكانيات المُبَاحة- ناحيتين ووصَل ضفتين وجمع شعبيْن في أسلوب سينمائي حكائي متناسق وبمرجعيات وشهادات حيّة رواها أهل الجُرح ماسكين باليسرى خنجرًا وباليمنى حباتِ مِلْحٍ..
حاول المخرج أكرم منصر بعث روحٍ في عمله مستلهمًا في ذلك روح الصحراويين الأشداء الذين صابروا لمدة أكثر من 38 سنة قسوة المناخ وعانوا ظلم الجار والشقيق الذي بغض حريتهم وسلبهم أراضيهم وحاصرهم بجدار وألغام..
الفيلم اتخذ منحى تراتبيًا تصاعديًا ألزمته الحبكة السينمائية. انطلق بالتعريف بوطن الصحراء الغربية من حيث الموقع الجغرافي ونمط الشخصية الصحراوية، مستندا بشهادات شفوية ومقاطع متأججة الحركة تختزل في زمن وجيز، تاريخًا صحراويًا عريقًا لا تُدْمِعُهُ زوابع ولا ترجه قسوة الهجير، وبخرائط توضيحية نَشِطَة، فكّ الفيلم شفرات الغموض والتعتيم الكامنة في ثقافة الإخوة التونسيين الذين لا يعرفون الكثير عن السيناريو الحقيقي للصراع الصحراوي- المغربي...
الفيلم وثّق سيرورة تاريخية – ماضوية، وراهنية إنسانية- ثقافية ، لشعب الصحراء الغربية، انطلق بعرض للرموز التي تميّز الصحراء من جداريات تختزل أحقابًا تاريخية صحراوية إلى شجرة "الطلح" التي توجد بكثرة في الصحراء، ولعّل المخرج قد أحسن توظيفها لرمزيتها المعبّرة عن الصمود والتحمّل والمقاومة والمصابرة والمكابرة كصفات الفرد الصحراوي.
تصرّفُ المخرج في تقنيات السينما كان متتابعا، متناسقا، وتلاعب بمشاهد قريبة جدّا دالة على إعمال ملكة التفحص والتأمل والتمكن من معاني الصورة كاملة، لفهم الفلسفة العامة للقضية الصحراوية، والفلسفة العامة للسيناريو الوثائقي. قُرب الصورة وبُعدها في عمل أكرم منصر تواتر بكثافة وبانتظام من أول الفيلم إلى آخره، على غرار رمزية "الشُبّاك" الحديدي، ونور الشمس المنبثق من خلاله، بكيفية تأطيرية انسجمت مع القوْل المُراد، والمعنى المنشود..
"إلي ما ما هو في أرضُ، ما هو شي، وإلي ما عندو أرض، ما عندو، والو"؛ نطقت بها امرأة صحراوية عانت الأمرين من التشرذم الذي تعيشه بين ضفتي وطنها، وقد تصرف فيه المخرج بكيفية موّجهة بإحساس سينمائي وأقحمه تركيبيًا بين صوت الريح الصحراوي، وبين مقطع الطيور المهاجرة، تحوم في سمائها المغلقة، وقد استوت الموسيقى التصويرية مع "المشهدية السينمائية" وتناغمت مع الواقعية المعيشة، حيث لا مفّر من الوطن، إلاّ إلى الوطن.
كما بيّن الشريط، أن الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية قد نَسفها الاحتلال نصفين، جيولوجيًا، وانسانيا، حيث الأراضي المحتلة من قِبَلِ الحكومة المغربية، وينفتح هذا الجزء جغرافيا على موريتانيا وعلى البحر حيث عيون تنظر بترقب نصفها الآخر وراء الجدار العازل -أو جدار العار كما يسميه أبناء الوطن الصحراوي- المتاخم للحدود الجزائرية على مسافة 43 كيلومترًا والباقي على طول الحدود المغربية شرقًا، وهو الجزء الأكثر أمنًا وأنسا للصحراويين، و الذي يشمل أركان الدولة الصحراوية القائمة منذ خروج الاحتلال الاسباني في القرن الماضي..
كاميرا المخرج تجولت في الصحراء الغربية حدّ الانتشاء. صافحت شعبًا مثقفًا، منتفضًا، ثائرًا دومًا، طالبًا حقّه المنهوب. صوّر الحصار الذي يعيشه رجال الصحراء وأبناؤهم بين الألغام المكشوفة والمستترة والأحزمة الدفاعية المحيطة بجدار العار الذي فرّق الأهل ومزق الأكباد واقتلع الأوتاد. وهي ألغام إسرائيلية - صهيونية الصنع، فرنسية التحميل وغرستها أيادٍ غادرة في الوطن الصحراوي الذي يدفع إلى اليوم ثمنا دون ذنب سوى حقه في العيش وتقرير المصير.
الفيلم نقل للجمهور التونسي بشاعة التعذيب الذي يناله المدافعون عن الوطن الصحراوي وأطوار الحرب بين جبهة البوليساريو الصحراوية والجيش المغربي في القرن الماضي، صور وأطوارٌ وشهاداتٌ صدمت المشاهد الذي استفاق من غيبوبة جبرية، واستفاق على حقيقة هي أقرب ما يكون إليه..
شريط الطيور المهاجرة، هو نظرة مختلفة للقضية الصحراوية بعيون سينمائية تونسية، نظرةٌ ظاهرة في الفيلم من نواحٍ عديدة وبتصرف لازم بين هامش الحرية الإبداعية وبين تقنيات الفنّ من جهة، وراوح بين الهامش الإنساني المحسوس وبين المحاذير الإنسانية الواقعية الملموسة، من جهة أخرى.
ما أُرِيدَ للملتقى الثالث لمخرجي الأفلام التونسيين من أهدافٍ قد تمَّ وبنجاح متفاوت التقييم، وما أُرِيِدَ من فيلم الطيور المهاجرة قد تمَّ، وقد نجح في إصابة الهدف المتمثل في كشف النقاب ورفع الغموض وإجلاء الحقيقة التي نعلم نصفها ولا نُتابع تفاصليها عن إكراه. وقد كان تناولا سينمائيا لموضوع القضية الصحراوية والأشقاء المغاربة، جاء بموضوعية ودون تعصبية فكرية أو انحياز لطرف معيّن من طرف مخرج و منتجيه.

وما الفيلم إلا تلك البوصلة التي تهدينا لوطن نتحسسه ولا نتلمسه، قبل امتلاكها..
المصدر: جريدة تانيت برس الإلكترونية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

الاكثر تصفح خلال الاسبوع

 
Design by التغيير - | صوت التعبير الحر