الخميس، 9 أغسطس 2012

الوطنية وجدلية التوريث

بقلم : لرباس محمد السالك

ظهر مفهوم الوطنية أبان العمر التنويري لأوربا، في البداية كان له إيقاع سلبي بسبب الطبيعة الاجتماعية لتلك الشعوب ولم تستقر الوطنية في أذهان شعوب أوربا الغربية إلا بعد تلاحق العديد من الظروف المختلفة مثل الحروب، والتطور الذي شهده حقل العلوم الاجتماعية. وبالنسبة للدول حديثة النشأة يمكن القول أنها ليست وطنية بالمفهوم الصحيح احتسابا في ذلك لطبيعة القوانين والدساتير القائمة عليها والمعطيات الاجتماعية المؤهلة لقيام دولة وطنية، وفي الوطن العربي كجغرافيا سياسية مستحدثة يمكن ملاحظة اختلاف في التركيبة السياسية لكل دولة تبعا لمتغيرات ارتبطت بتاريخ شعوب تلك الدول بما في ذلك التنوع الموجود في البنية الاجتماعية سواء تعلق الأمر بالطائفية أو العصبية المنتشرة بكثرة في البلدان العربية. وبالنسبة للإشكال الذي نريد التصويب في اتجاهه هو ذلك الارتباط الموجود داخل الدولة بين متغيرات لها تأثير بشكل مباشر على الوطنية في مظهرها العام، وعليه كيف يمكن صياغة وطنية تحافظ على أساس المجتمع وفي نفس الوقت تساهم في رقي الشعوب في الاتجاه الذي يضمن الشكل المدني للدولة؟

من خلال هذا الطرح سنحاول التعرج على جملة من النقاط نرى فيها مجال الارتباط بالوطنية وهي كالأتي: التصور التقليدي لاستمرارية أي نظام:
في التاريخ البعيد أتى الإنسان بمفهوم الحكم الملكي وفي ثناياه كانت توجد كل أشكال الاستبداد، وكان الفعل يختصر على الطائفة الحاكمة، فقرار الحل والعقد مختزل في البلاط الملكي فقط وليس لأحد صلاحية الإسهام في المسائل العامة إلا إذا توفرت إشارة البلاط، وهو ما يفهم منه انغلاق دائرة الحكم على طائفة تتشارك في مصلحة ضيقة لا تتعدى الرابطة العائلية أو تلك الرابطة الناشئة بسبب مصلحة قائمة في اتجاه لا يوفر توازن بين المتعاقدين فيها، مع حلول عصر التنوير تخلت العديد من الشعوب عن هذا التصور بعد أن حل محله النظام الجمهوري أو الدولة الوطنية المرتكزة على قواعد متينة تم تدعيمها أكثر من مرة بواسطة قيود قانونية تضبط العلاقة الموجودة بين كل أشكال الوحدات داخل الدولة الواحدة. أما بالنسبة للشعوب المتخلفة بسبب حكم تاريخي معين ومنها الشعوب العربية طبعا فهي لازالت تتراوح بين تجارب الشعوب الأخرى والعامل التاريخي المحصور في الجانب الديني والتاريخ العربي غير المستقر "من الناحية السياسية طبعا"، ودليل ذلك هو عدم اتفاقها في رؤية موحدة تجاه وضع سياسي معين، أما الذي اشتركت فيه هذه البلدان هو التفسير غير الدقيق أثناء بناء العلاقة بين الوطنية ومخرجات النظام فهي على الأرجح استقرت في وضع سياسي ينسبها لنظام جمهوري كما لملكي وهو ما ينسينا حتما للوطنية التي تتظاهر بها تلك الشعوب باعتبار أن النظام أبقى على تصوره في مقابل التخلي عن لب الوطنية وقام بحصرها في التعايش بين الأفراد وأحيانا بالقدرة في قهر الفرد عن طريق القوة العمومية أو بطريق الضغط، ولعل الدليل في فشل الوطنية داخل البلدان العربية هو ما حدث من توترات ابتداء من تونس، مصر، ليبيا، اليمن وسوريا، وربما السبب في ذلك هو الرؤية التقليدية التي كان يراها الحكام العرب ناجعة لاستمرارهم في الحكم، وما وقع في هذه البلدان يثبت فشل انطلاقة الوطنية في جو تسوده العصبية وكذا الطائفية أما المدنية المنسوبة للبعض كتونس ومصر فهي ليست بالمعنى المراد لأن المدنية هي المنطلق الفعلي للوطنية، وهذه الأخيرة بدورها أتي بها من اجل النمو والرقي لان تجربة الدولة الوطنية تملي علينا صورة تتشارك فيها كل مجالات الحياة الصناعية الزراعية التجارية وغيرها لأن ذلك هو المنطلق الفعلي والضامن لنجاح أي دولة وطنية، أما حال مصر وتونس من الناحية الاجتماعية والسياسية كان سيء ولا يعبّر عن العلاقة المفترضة بين الشعب والنظام.
حالة الضعف التي تعاني منها بعض البلدان الحديثة:
من خصائص البلدان الضعيفة هو تبعيتها للدول ذات القوة والنفوذ، وكذا عدم قدرتها في إنتاج مواقف مستقلة تناسب المبدأ الذي يفترض فيها الدفاع عنه. من ناحية تعتبر الدول الضعيفة بعيدة عن الوطنية بمفهومها السليم لأنها بقيت تراوح سلوكها عند الحقل الممهد للوطنية، بالضبط عند المسائل العامة كشكل الدولة، حدودها وغير ذلك، أما سبب الثبات فنجده يتأثر بطريقة مباشرة عندما تلجأ القوة الحاكمة لفرض تصور يناسب مقاسها وتتناسى القاعدة الفلسفية المنشئة لوطنية حقيقية قائمة على نمط من العلاقات المعقدة، كذلك يبقى الضعف سبب في تصويب وجهة النظام الحاكم لأن في الأصل الدولة الوطنية هي الدولة التي لها القدرة على النمو والرقي بخلاف مثلا حال الأنظمة غير الديمقراطية الموجودة في الوطن العربي. كذلك سببت حالة الضعف نوع من لا اتزان بين فئات الشعب، فأصبحت السلطة تبحث عن الذين لهم فضل معين في بقائها، تقوم بتوطينهم من اجل تدعيم حظوظ البقاء، مع كل هذا يعتبر ذلك فعل مشروع إلى حد ما لكن ما يجب الإشارة إليه هو أن هذا الفعل يبقى بعيد كل البعد عن المصلحة المفترض تحصيلها لأن في الأصل العمل المراد الوصول إليه هو ذلك الفعل الذي بسببه تنتقل الدولة من حالة الضعف إلى حالة تمكنها من موقع في ظله تكتسب سلم معه تنتقل إلى حقل القوة.
القاعدة المنشئة لوطنية حقيقية:
بالنسبة للبلدان حديثة النشأة أثناء فترة التحرير رسمت العديد من الأهداف تحدد أساسا شكل الدولة وتوجهها انطلاقا من الواقع الذي سايره المحررين لكن مع مرور الزمن تخلت النخب الحاكمة عن تلك التصورات بسبب تلاحق العديد من الظروف والتي مست بشكل كبير منحى سياسة الدولة تجاه الكثير من الأمور منها حتى تلك المرتبطة بأمن الدولة وهذا طبعا بسبب ضعف الدولة والسبب في ذلك أيضا هو تخلي الدولة عن القواعد التي رسمها المحررون. أما عن وجهة الوطنية في ظل كل هذا تبقى غير واضحة لأن النظام في حد ذاته يمكنه الاستنجاد بتاريخه فأي نظام له بداية نزيهة في نظر العامة. عندما نتحدث عن وطنية حقيقية تتجاوز المعنى التقليدي فإنه يلزم وضع قاعدة البداية كتلك المرتبطة بمصير الشعب، هذا إضافة إلى العمل من أجل تنمية رغبة العامة في مشاركة نخبها بغرض الوصول إلى وضع يكسبها القوة، أما شكل المشاركة فنقصد حتما الطريقة التي تتماشى والمبادئ التي تأسست من أجلها الدولة، فالوعي هو شرط بديهي يمكن للفرد من خلاله استيعاب مصالح بلده في شقيها الداخلي والخارجي أما النقطة الثانية المطلوب التجنيد لها هي العمل من أجل رفع قدر الدولة على الصعيد الإقليمي بما في ذلك استعمال الأساليب التي تخدم سمعة الدولة في التصنيف العام تجاه نقاط متعددة مثل الحريات العامة، ميزان الديمقراطية عموما، وكذا مستوى التعليم، الصحة، الشؤون العامة وغير ذلك. في اتجاه آخر يمكن القول أن الوطنية تتأثر بمفهوم التوريث عموما، فتوريث الفكرة السليمة يعني تمرير وجهة نظر صحيحة بفضلها يبقى التطور على مساره الطبيعي، كما أن توارث الأفكار التي تخالف المصلحة العامة تبقي بالضرورة على الوضع الذي لا يتماشى مع مفهوم الوطنية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

الاكثر تصفح خلال الاسبوع

 
Design by التغيير - | صوت التعبير الحر