الأربعاء، 4 يونيو 2014

سيدي حيذوك، أول وأصغر عضو مكتب سياسي وقائد ناحية يستشهد (I)

إنه من الصعب جدا، الآن، تصديق ان يكون تواجد بين ظهراننا ذات يوم شخص شاب اسمه سيدي حيذوك، أو سيدي عالي برَّك. أن أقرب توصيف لوجوده القصير بيننا هو أنه كان مثل نجم أطلَّ في ليلة مظلمة لمدة ثواني، فقط، وأضاء كل ما حوله، وأبهر عيون الناس وعقولهم ثم آب بسرعة تاركا الظلمة. الذين عرفوه ربما يتساءلون اليوم هل تواجد بيننا، فعلا، شخص اسمه سيدي حيذوك أم لا. كان أشبه بأسطورة من هذه الأساطير التي نتناولها والتي لا نعرف هل كانت حقيقية أم لا.
في الحقيقة تواجد بيننا، فعلا،، لكن في هيئة شخص خارق للعادة أو في هيئة بعض الخوارق التي نزلت إلى الأرض في هيئة شخص. اسمه سيدي ولد عالي ولد برك، وغلب عليه الأسم المختصر الذي ينسبه إلى جده حيذوك، أما أمه فهي لالة الكراد، حمل اسم حركي هو خطري، أزداد في منطقة الدورة سنة 1955م، وبدأ يدرس متنقلا بين الطانطان بوزكارن، أغادير. كان متفوقا أو كان يحمل في رأسه آلة يحصد بها الدروس والمواد بسرعة عجيبة وبتفوق. حين تعرف عليه الشهيد الولي سنة 1971م، وعمره آنذاك 16 سنة، اكتشف فيه قبس العبقرية التي كانت في نظره خارقة للعادة. بدأ يقربه إليه ومنه ويحترمه ويتناقش معه - من بين كل الطلبة- على انفراد دائما، رغم أنه هو أصغر الطلبة في الجنوب المغربي الذين ينشطون في الحركة الجنينية.
وجود الولي وزملائه وتنقلهم في الصيف إلى الجنوب المغربي المكتظ بالصحراويين سرا، جعل الشرارة تنفجر هناك. تم تأسيس الحركة الجنينية سريا، وهي حركة سياسية سرية لتحرير الصحراء، وكان شعارها البارز هو نشر الوعي بين سكان الصحراء سريا لتحضريهم للكفاح، وتنظيم الناس، خاصة الطلبة والمثقفين، في خلايا. كان سيدي حيذوك رغم صغر سنه - 17 سنة فقط- واحدا من الذين امتطوا صهوة حصان الحركة الجنينية مبكرا، فأصبح عريف خلية في تلك الحركة. في أواخر سنة 1972م، وبالضبط بعد شهر جويلية، كانت تلك الحركة قد أصبحت لها فروع وخلايا سرية في الكثير من الصحراء، خاصة في الجنوب المغربي وفي العيون، وكان مناضلوها الشبان، بقيادة الولي، يتنقلون في البوادي ينشرون الوعي، يلتقون بالناس ويحرضون على الثورة. مع نهاية السنة- 1972- كان خطابهم قد أقنع الكثيرين وأنار لهم الطريق وفتح عيونهم. بالموازاة مع التحريض أصبحوا يسألون عن السلاح، يعرفون منْ من البدو يمتلك سلاحا، ومن منهم مستعد للتبرع بالجمال، ومن منهم سيصبح ثوريا، ووضعوا خرائطا لمصادر المياه في الصحراء، ووصل التحضير إلى اللمسات الأخيرة. آخر ما فعلوه هو أنهم بعثوا رسائل إلى الدول المجاورة وإلى المدن الصحراوية يطلبون من الناس التحضير للثورة، ويطلبون الدعم. كانت تحضيراتهم دقيقة جدا، إلى درجة أنهم أعدوا بعض الشعارات، وكتبوا بعض الأناشيد، ووضعوا بعض التصور للبرنامج المستقبلي للثورة مثل المباديء والنشيد. في اجتماعات متفرقة في نهاية فبراير 1973م تم الاتفاق أن يكون يوم 30 ابريل 1973م هو آخر موعد للالتحاق بالزويرات في موريتانيا، أين سيتم عقد المؤتمر التأسيسي الذي سيعلن فيه الكفاح المسلح ويتم فيه تأسيس الحركة التي ستصبح تقود الشعب الصحراوي. وإذا كان هؤلاء قد اتفقوا إن ينطلقوا نحو الزويرات في التاريخ المذكور، فإنه يجب إن نُذكر إن مجموعة أخرى من مناضلي وسجناء مظاهرات الزملة منهم إبراهيم غالي، موسى لبصير مهمد زيو واحمد القائد صالح ومجموعة أخرى كبيرة، كانت قد انطلقت نحو الشمال الموريتاني في تاريخ سابق لهذا التاريخ لنفس الغرض وهو التحضير للثورة المسلحة.
حين قرر الطلبة الانطلاق نحو الزويرات أكد الولي للمجموعة في اجتماع، إنه يجب أن يبقى بعض الطلبة يشرف على الفروع في جنوب المغرب، وفي الخفاء طلب من رفاقه الذين حضروا أن يخفوا عن سيدي حيذوك الصغير، عريف خلية يوسف بن تاشفين، خبر انطلاقتهم. قال لهم الولي: "من يخبر سيدي حيذوك بأمر ذهابنا إلى موريتانيا، هو متعدي، وظالم". فالولي، المبهور بعقل بسيدي حيذوك وبقدرته منذ مدة، يريد هذا الفتى النابغة، الحلو، الذكي، الطيب المعشر أن يواصل دراسته ويشرف على الفرع؛ بعبارة أخرى، كان يعده للمستقبل، ويريد الصحراويين أن يستفيدوا من ذلك الطفل الأسطورة في زمن آخر.
إلى الزويرات سيرا على الأقدام
في بداية مارس انطلق الولي ومجموعته( الطلبة الكبار) نحو موريتانيا مرورا بتندوف لتحضير الأرضية في زويرات على أن يتبعهم البقية في أيام قليلة. تلك السنة كان سيدي حيذوك وصديق آخر له، هو المحجوب إبراهيم، يدرسون في السنة النهاية ثانوي، شعبة علوم- رياضيات استعدادا للباكلوريا. طبقا لوصية الولي، بدأ الشبان الصحراويون الذين كانوا في أغادير يستعدون، في سرية تامة، للانطلاق دون أن يثيروا انتباه الولد الذكي سيدي، الذي يريده الولي أن يبقى يواصل دراسته تحضيرا للمستقبل. قبل ساعة الصفر، حلق الشبان شعورهم الطولية حتى لا يثيرون الأنبتاه في الطريق. فالشعر الطويل كان، انذاك، موضة تشيغيفارا، وموضة الثوار في كل العالم، وكان الطلبة الصحراويين المنضمين للحركة الجنينية قد تركوا، هم أيضا، شعورهم تطول اقتداء بتشي غيفارا. حلقوا رؤوسهم كلهم ذلك اليوم ولم يبق سوى سيدي الذي يريدونه أن يبقى.
فكَّر بعض الطلبة أن يتركوا لسيدي رسالة في خزانته ليطَّلع على الخبر بعد سفرهم، والبعض اقترح إن يتم طلب منه الذهاب إلى مكان خارج الثانوية حتى لا يعلم برحليهم. في الليلة التي سبقت انطلاقة الذين كانوا في أغادير، ومنهم سيدي حيذوك والمحجوب إبراهيم والبشير مصطفى ومجموعة أخرى، وحين كانوا يتعشون، تفطن سيدي حيذوك الحاد الذهن، الدقيق الملاحظة، إن المحجوب إبراهيم، صديقه، لم يتعشى، وان الآخرين كانوا متنرفزين. حدس سيدي إنهم سيتركونه بالفعل. وبالإضافة إلى أنه نابغة في الدراسة، كان أيضا شاعرا( مغني). حين انتهى العشاء، خرج المحجوب فتبعه سيدي، وحين التحق به، سأله: ما الذي ستفعلون؟ لم يجبه المحجوب، فردَّ عليه سيدي بالـﯕاف التالي:
ياللي عني هوك ميشي مشيك يا خَييِّ ماحنَِي
لا تمشي عني يا ويشي ياويشي لا تمشي عني
ثم قال: ستذهبون
بكى المحجوب إبراهيم، ثم أسرَّ له أنهم سيذهبون، وأنه هو أيضا سيذهب معهم، وليكن ما يكن.
قال له سيدي: لو كنتم ذهبتم عني كنت سأرمي نفسي من فوق تلك المنارة( الفارو) في البحر. سوف لن يتحدث الناس بعدي انني أنا ولد حيذوك سأتخلف عن الرجال."
حين علم البشير مصطفى إن المحجوب أخبر سيدي بالذهاب إلى موريتانيا، كاد يتشاجر معه، وتفل عليه، لإن الولي طلب من الجميع سرية الرحلة وترك سيدي الصغير.
يوم 11 مارس 1973م، على الخامسة صباحا، خرج المحجوب إبراهيم وسيدي حيذوك، وأخذا الحافلة من أغادير متجهين إلى الجنوب في رحلة بلا خريطة وبلا بوصلة، يدفعهم العزم والحزم والحلم بالثورة. نزلوا من الحافلة في أول مدينة، وبدا مسلسل المتاعب والبرد والجوع والخوف. في الصباح الموالي، حين أكتشف الطلبة المغاربة، خاصة أعضاء حركة إلى الأمام، أن مقاعد الطلبة الصحراويين شاغرة وأنهم كلهم غابوا، أضربوا عن الدارسة، واتهموا النظام المغربي بأنه هو الذي ذهب بهم إلى السجن.
كانت الطريق كلها مقطوعة بالحراسات، بمراكز التفتيش، بالدوريات المغربية التي بدأت تصطاد الصحراويين. قطع الشابان 110 كلم سيرا على الأقدام، وفي بعض الأحيان لم يكن معهم سوى قطعة خبز ومقص ومصباح يدوي وبعض الدريهمات القليلة في جيب المحجوب. في الطريق قص المحجوب لسيدي شعره بالمقص الذي يحملون حتى لا تتفطن لهم الحراسات إذا وقعوا في قبضة إحداها. كانوا يسيرون، يسيرون ثم ينامون في تلك الصحراء القاسية. ركبوا على الحمير، مشوا، جروا، لكن المسافة كانت طويلة؛ أطول مما يمكن أن يتم قطعه على الأقدام. بعد خمسة أيام وصلوا إلى الطانطان. كل الذين التقوا بهم قالوا لهم إن البوليس يبحث عنهم. اختفوا. علمت عائلاتهم بدخولهم السري إلى الطانطان. حين عملت أم سيدي- لالة- أنه دخل المدينة، بدأت تبحث عنه في الشوارع وفي المنازل التي من الممكن إن يختفي فيها. كانت تحبه مثلما كان الجميع يحبه ويفضله. بعد يومين من الاختفاء، خرجا من جديد. لم يلتق سيدي بوالدته التي جابت كل أحياء الطانطان تبحث عنه. ودعتهم والدة المحجوب، مينتو احمد وداعا حارا؛ احتضنت سيدي طويلا أكثر مما احتضنت ولدها المحجوب. خرجا على الأرجل من جديد. لازالت المسافة طويلة، وكلما اقتربوا من الجنوب تزداد الخطورة، وتكثر الحراسات، ويتقوى التنسيق الأمني بين المغرب وأسبانيا. بدأت المتاعب. فسيدي الصغير، بسبب عفويته، كانت تنزلق بين الحين والآخر كلمة من الدارجة على لسانه، رغم انه مغني با الحسانية، ومن الممكن أن تفلت منه كلمة في غير محلها، ولا يعرف أسماء أرض الصحراء. وحتى لا يثير الانتباه طلب منه المحجوب إن يعتبر نفسه مجنونا، وعلق له رُقية( حجاب) على رأسه الحليق حديثا بطريقة غير متقنة وبمقص دافر، وطلب منه أن لا يتكلم. في الطريق قفزا في شاحنة لمغربي مملوءة بالخضر والفواكه؛ استغل سيدي الذي يمثل دور "المجنون" الفرصة وبدأ يأكل ويملأ جيوبه بالفواكه حتى يتأكد المغربي، صاحب الشاحنة، انه مجنون حقا. قُرب إحدى الحراسات نزلا من الشاحنة، وتحايلا على المكان حتى تخطياه وبقيا ينتظران شاحنة أخرى. مرت شاحنة أخرى لصحراوي فركبا فيها. حين توقفت الشاحنة للمبيت، وعلى ضوء النار، أستطاع سائق الشاحنة، من خلال الملامح، التعرف على الشابين؛ فهو يعرفهما ويعرف عائلاتهما. قال لهما: البوليس يبحث عنكما. كانت شاحنة لمناضل اسمه السالك علي مولود، وهذا الأخير، سينكشف أمر نضاله بعد ذلك حين يحتل المغرب الصحراء وسيدخل السجن في مـﯕونة ويموت هناك تحت وقع السياط وسوء المعاملة.(يتبع)
المقال القادم: سيدي حيذوك، الجزء الثاني
بقلم : السيد حمدي يحظيه.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

الاكثر تصفح خلال الاسبوع

 
Design by التغيير - | صوت التعبير الحر